الشأن الإسبانيسياسةعاجل
أخر الأخبار

الجزائر وإغواء الوعي الإسباني.. تفكيك دعاية الانفصال وخطاب العسكر المنهار “تحليل”

فالجزائر التي تدعي الدفاع عن حقوق الشعوب، لا تسمح لشعبها بالتظاهر من أجل غزة، وتعتقل من يكتب ضد العسكر، وتغلق منابر إعلامية مستقلة، وتمنع حتى التصوير في الشارع...

لا تكف الجزائر، منذ سنوات، عن حياكة خيوطها الإيديولوجية والسياسية للتأثير في الرأي العام الإسباني، وتوجيهه عبر قنوات ناعمة، لكنها ملغمة، نحو تبني أطروحة الانفصال التي تتبناها ذراعها المصطنعة جبهة البوليساريو، في سعي محموم لإرباك الوعي الأوروبي، والتسلل إلى وجدان الشارع الإسباني عبر سرديات مكرورة، أكل عليها الزمن وشرب، لكنها تعاد بإلحاح عبر كتاب وصحفيين يمتحون من فكر اليسار الراديكالي، وينزلقون بوعي أو بدونه، إلى خدمة أجندة مؤسسة العسكر في الجزائر.

لا يتعلق الأمر بحرب أفكار عابرة، بل هو تراكم زئبقي لخطاب موجه، يستغل فيه النظام الجزائري كلا من شبكات التأثير الإعلامي، ومراكز الفكر الإسبانية، ويغري أقلاما تعاني من خواء تحليلي أو من جوع مادي، ليعيد من خلالهم تدوير أطروحة الانفصال باسم “حق تقرير المصير”، وهي عبارة باتت فقدت طهرها النضالي، وصارت أداة لخدمة أجندات تقسيمية يديرها جنرالات ما بعد الاستقلال الذين لم يغادروا أبراج الخوف، ولا سرديات الحرب الباردة..

الجزائر، وهي تدرك حجم خسارتها الجيوسياسية بعد التحول النوعي في الموقف الإسباني الرسمي إزاء قضية الصحراء المغربية، بعد تبني مدريد لمبادرة الحكم الذاتي كحلّ جاد وواقعي، تجد نفسها مضطرة اليوم إلى البحث عن منافذ موازية لتعويض خسارتها في ساحة القرار السياسي، عبر محاولة كسب معركة التأثير الرمزي داخل الإعلام الإسباني، وذلك بتغذية الأوهام القديمة داخل رؤوس متحجرة تستهويها قضايا التحرر دون أن تدرك سياقاتها المركبة.

بالإضافة، شهد ملف الصحراء المغربية تحولات دبلوماسية لافتة، تمثلت في اعتراف قوى دولية كبرى بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، أو دعمها الصريح لمقترح الحكم الذاتي كحل واقعي وذي مصداقية.

فقد شكّل الاعتراف الأمريكي التاريخي في 2020 بمغربية الصحراء نقطة تحوّل كبرى، تلاه دعم فرنسي وألماني متزايد لمبادرة الحكم الذاتي، وبلغت هذه التحولات ذروتها مع الموقف الإسباني الجديد سنة 2022، الذي وصف المبادرة المغربية بأنها “الأكثر جدية وواقعية”.

هذه المواقف الدولية وجهت كصفعة قوية للانفصاليين وداعميهم، وعلى رأسهم الجزائر، وأكدت تزايد الدعم الدولي لوحدة المغرب الترابية وحل النزاع في إطار السيادة المغربية.

فجبهة ميليشيا البوليساريو التي كانت في زمن ما تحاول أن تستظل بظل الشرعية الثورية، باتت اليوم مجرد ورقة محروقة، لا تحرك إلا النتوءات القديمة في الذاكرة اليسارية الأوروبية، والتي لا تزال تؤمن أن كل ما يسمى استقلالا هو بالضرورة فضيلة سياسية.

بهذا المعنى، يعمد النظام الجزائري إلى تجنيد بعض الأصوات في الصحافة الإسبانية، وخاصة تلك المرتبطة بجمعيات بما تسمى “التضامن مع الشعب الصحراوي”، ويستثمر في لوبيات صغيرة لكنها نشطة، تعيد صياغة الخطاب الانفصالي بلغة إنسانية كاذبة، بينما تخفي حقيقة أن مخيمات تندوف نفسها تعيش خارج القانون الدولي، وأن قيادة الجبهة ليست سوى ظل باهت لنظام العسكر.

إن الخطاب الجزائري، في عمقه السيكولوجي، يتأسس على عقدة مزدوجة.. عقدة الفشل في بناء نموذج داخلي مقنع، وعقدة الإسقاط المستمر على الخارج لتبرير هذا الفشل.

من هنا نفهم كيف أن المؤسسة العسكرية الجزائرية لا تزال تعتبر أن المساس بوحدة المغرب هو بمثابة انتصار معنوي يعيد تماسك الجبهة الداخلية المهترئة، ويعيد إنتاج سردية العدو الخارجي كمبرر دائم للقمع الداخلي، وتجميد الحياة السياسية، وفرض وهم الإجماع الوطني حول لا قضية.

ويسجل هنا أن الرأي العام الإسباني، خصوصا اليساري، هو هدف مفضل للجزائر لأنه يميل تقليديا إلى مناصرة قضايا التحرر، لكن هذا الميل، حين لا يواكب بتحليل دقيق، يتحول إلى نوع من السذاجة السياسية، ويفتح الباب أمام خطاب تضليلي يستثمر عاطفة الرفض لحرب غزة، وهي رفض مشروع،  لربطها بسياقات محلية لا علاقة لها بها، مثل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية.

الجزائر، إذ توظف الجرائم الصهيونية في غزة لترويج مقاربات خاطئة، تحاول أن تقدم نفسها كدولة ممانعة، وكصوت للضعفاء، وهي في حقيقتها لا تختلف جوهريا عن إسرائيل، لا من حيث الوظيفة الجيوسياسية، ولا من حيث المنهج في تدبير التناقضات الداخلية عبر تصدير الأزمات للخارج.

الدولتان، الجزائر وإسرائيل هما وجهان لوظيفة واحدة.. وهي من الكيانات المصطنعة – (وكنت كتبت مقالا سابقا حول هذا الموضوع قبل سنوات كشفت فيه أوجه الشبح بين الكيان الإسرائيلي ودويلة الجزائر..) هدفه – إرباك المحيط، وتفكيك الجوار، والتأسيس لخرائط مجروحة بالدم وبالتاريخ المبتور.

وإذا كان كيان الاحتلال يزرع في فلسطين الكولونيالية المباشرة المدعومة بالسلاح، فإن الجزائر تمارس استعمارا مضادا، عبر أدوات ناعمة، لكنها لا تقل خطورة، هدفها المس باستقرار المغرب، وتفتيت نسيجه الوطني، باسم مقولة فارغة تسمى “الصحراويون”.

وهنا ينبغي التوقف مطولا عند السؤال الجوهري، من أعطى الجزائر حق الوصاية على شعب لا يعيش فوق ترابها؟

وما الذي يجعلها تستمر في تمويل ميليشيا مسلحة، لا تعترف بها أغلب دول العالم، في وقت يتضور فيه شعبها جوعا ويقمع لأنه طالب برغيف الخبز؟

إن العقدة الجزائرية تجاه المغرب قديمة، لكنها أخذت بعدا هستيريا بعد أن أفلت زمام التأثير من يدها في مدريد.

فالسياسة الخارجية الجزائرية، وهي لا تملك مرونة مؤسساتية ولا ديناميكية عقلانية، تسلك مسلكا بدائيا عنوانه إذا “لم نربح، فلنربك” لذلك، نراها تنفق الملايين على لوبيات إعلامية، وتعرض تمويل مهرجانات وندوات ثقافية في إسبانيا، بشرط واحد.. الترويج لأطروحة الانفصال، والتشويش على مواقف الحكومة المركزية.

والأسوأ من ذلك، أن بعض الصحفيين الإسبان ممن يروجون لهذا الخطاب لا يعرفون حتى أين تقع تندوف، ولم يزوروا في حياتهم مخيمات المحتجزين، بل يعتمدون على تقارير جاهزة ترسل من سفارات الجزائر، ومقالات مأجورة تترجم بحماسة كأنها إنجيل، وتبث على شكل وعي معلب، تحت غطاء التضامن الإنساني.

لكن هذه اللعبة باتت مكشوفة.. فالجيل الجديد من الصحفيين والمحللين في إسبانيا بدأ يدرك أن هناك تلاعبا متكررا في الملف، وأن القضية التي ظنها عادلة، ما هي إلا ستار لدولة فاشلة تحاول تسويق وهم الثورة وهي تقمع ثوارها الحقيقيين في الداخل.

فالجزائر التي تدعي الدفاع عن حقوق الشعوب، لا تسمح لشعبها بالتظاهر من أجل غزة، وتعتقل من يكتب ضد العسكر، وتغلق منابر إعلامية مستقلة، وتمنع حتى التصوير في الشارع.

فبأي وجه تدافع عن “حق الشعوب في تقرير المصير” وهي لا تعترف حتى بحق شعبها في تقرير مصيره؟ هنا ينهار الخطاب، ويصبح التناقض فاضحا، ويصبح الدفاع الإسباني عن البوليساريو بمثابة مشاركة غير واعية في لعبة جيوسياسية خطيرة، تؤدي إلى شيء واحد. تقويض الاستقرار الإقليمي، وتكريس الانفصال كحل في منطقة تحتاج أكثر إلى الوحدة والاندماج.

ما لا يدركه الكثيرون هو أن الجزائر لا تدافع عن الشعب الصحراوي، بل تدافع عن خريطة سياسية مفترضة، لو تحققت، لجعلت من المنطقة مغنطيسا للفوضى  وقاعدة خلفية لتصفيات الحسابات الدولية.

فدويلة وهمية في إقليم الصحراء بالمغرب، محاطة بالجوع واليأس والتسلح، لن تكون أبدا نموذجا للتحرر، بل بؤرة لعدم الاستقرار، وساحة لتصفية الحسابات بين القوى الكبرى.

لهذا كانت مبادرة الحكم الذاتي المغربية هي المقترح الوحيد الذي جمع بين الواقعية والمصداقية، وبين احترام السيادة وضمان الحقوق، لكنه لم يرق لنظام لا يعيش إلا في ظل العداء، ولا يتقن إلا فن العرقلة.

في النهاية، يجب أن نفكك الخطاب الجزائري لا بوصفه سردية وطنية، بل كمنظومة دفاعية لنظام متهالك، يحاول أن يخلق عدوا خارجيا لتبرير عسكرة الداخل، وشراء الأصوات الخارجية لتسويق سردية خاسرة.

إن تأثير الجزائر على الرأي العام الإسباني بدأ يتراجع، لأن الأكاذيب لا تعيش طويلا في بيئة ديمقراطية، والحقائق التي كانت تدفن تحت غبار الشعارات بدأت تظهر.

لقد خسر النظام الجزائري رهان مدريد، وهو اليوم يحاول أن يعوض ذلك في أزقة الإعلام، وفي دهاليز المراكز البحثية. لكن الرأي العام لا يشترى كما يشترى المرتزقة، والتاريخ لا يكتب بالتحويلات البنكية، بل بالحقائق الصلبة.

وما ضاع حق وراءه وطن صامد، وما انتصرت سردية تخدم نظاما يتآكل من الداخل، ويخاف أن يستفيق شعبه ذات يوم، فيكتشف أن كل ما عاشه كان كذبة طويلة.. وصحراء المغرب، ستبقى مغربية، مهما رقص جنرالات الجزائر المغموسة أياديهم بالدم،  على جراح التاريخ.

https://anbaaexpress.ma/t06n1

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى