آراءثقافة
أخر الأخبار

الذكاء الاصطناعي.. قتل الملكات الفكرية والإبداعية في عالم ما بعد الإنسان

الآلة قد تستطيع محاكاة الإبداع، لكنها لا تملك تلك "اللمسة الإنسانية" التي لا يمكن تعليمها أو برمجتها

عندما بدأنا نسمع لأول مرة عن الذكاء الاصطناعي (AI)، كان مصطلحا يشاع بين فئة محدودة من المتخصصين في العلوم التقنية، لكن سرعان ما أصبح أحد المحاور الرئيسية التي تقود العديد من النقاشات الفلسفية والاجتماعية والعلمية.

بيد أن هناك قلقا عميقا يهدد جوهر الإبداع البشري، يتجسد في فكرة “قتل الملكات الفكرية والإبداعية” التي كانت يوما سمة الإنسان النادرة والمميزة.

في هذا المقال، نسعى للغوص في هذه القضية بعين فلسفية ناقدة، تبتعد عن المنظور التكنولوجي البسيط لتتناولها من زاوية أعمق، تستعرض تأثير الذكاء الاصطناعي على التفكير الإبداعي والعقلي، مع الإشارة إلى تصريحات حقيقية لمختصين يضيفون طبقة من الواقعية والتحليل.

قبل الخوض في تحليل تأثير الذكاء الاصطناعي على التفكير الإبداعي، لا بد من تحديد طبيعة هذا المفهوم.

يشير الذكاء الاصطناعي إلى قدرة الآلات على محاكاة العمليات الذهنية البشرية مثل التعلم والتفكير واتخاذ القرارات. ومع التقدم السريع في هذا المجال، أصبح لدينا اليوم روبوتات قادرة على كتابة الشعر، وتأليف الموسيقى، بل وحتى خلق أعمال فنية.

لكن ما الذي يحدث عندما تتفوق الآلات على البشر في مجالات كانت في الماضي تعتبر حكرا على العقل البشري؟

العديد من الفلاسفة والمختصين في الذكاء الاصطناعي يختلفون في إجابة هذا السؤال. فبينما يرى البعض أن هذه الأدوات ستساهم في رفع مستوى الإنتاج الإبداعي، يشير آخرون إلى أنها قد تقضي على ذلك الإبداع نفسه، وتؤدي إلى “قتل الملكات الفكرية” التي تشكل جوهر الإنسان.

في هذا السياق، يرى الفيلسوف الأمريكي “هربرت ماركوزه” أن “التكنولوجيا تتحول إلى أداة للهيمنة والسيطرة على الإنسان، بدلًا من أن تكون أداة لخدمته”.

وفي هذا التصور، لا يعود الذكاء الاصطناعي مجرد أداة مساعدة، بل يصبح مصدرًا للتهديد على العمق الفكري والإنساني.

الذكاء الاصطناعي لا يقتصر تأثيره على مجالات تقنية أو صناعية فقط، بل يتغلغل في أعماق الفن والفكر. في الأدب مثلا، يمكن للذكاء الاصطناعي أن يولد نصوصا بمقدار عال من الواقعية والتعقيد، قد يصعب التمييز بين ما هو بشري وما هو مبرمج.

أما في الموسيقى، فقد أصبحنا نشهد برامج تستطيع تأليف مقطوعات موسيقية تنبض بالحياة والشعور، مما يثير التساؤل: هل يمكن للآلة أن تحل محل الإبداع البشري؟

البروفيسور في علم الروبوتات” توماس دينارد”، في محاضرة له حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، أكد أن الذكاء الاصطناعي قد يحل مكان المبدعين في العديد من المجالات، وهذا قد يؤدي إلى زوال الوظائف الإبداعية كليا في المستقبل القريب.

وعليه، تثار القضية: هل نحن في صدد قتل الإبداع؟ أم أن هذه التكنولوجيا ستخلق شكلا جديدا من الإبداع البشري؟

تتمثل المشكلة الجوهرية في أن الذكاء الاصطناعي يعمل وفق خوارزميات تم تصميمها بعناية لتكرار الأنماط المعروفة والموثوقة.

بينما يعتمد الإبداع البشري على الفوضى، الاختلاف، والمفاجأة التي يمكن أن تخرج عن الإطار المتوقع.

هنا يكمن الاختلاف العميق: الآلة قد تستطيع محاكاة الإبداع، لكنها لا تملك تلك “اللمسة الإنسانية” التي لا يمكن تعليمها أو برمجتها.

الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر” في عمله “الوجود والعدم” قدم تصورا مغايرًا عن الإبداع، حيث أشار إلى أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمكنه خلق المعنى من العدم.

هذا الفهم يعكس قدرة الإنسان على تخطي القيود المنطقية والعملية، على عكس الذكاء الاصطناعي الذي يظل محكوما بالقواعد التي وضعها المبرمجون.

لذلك، يبقى إبداع الإنسان في مجالات الفن والأدب ليس مجرد تجميع للأفكار والأنماط، بل هو عملية خلاقة تنطوي على التجربة الحياتية والتفاعل مع العالم.

ما يحدث اليوم هو أن الذكاء الاصطناعي قد يتغلغل في مجالات أوسع، ليشمل الفلسفة والعلوم الاجتماعية، محاولا تفسير القضايا الإنسانية المعقدة.

لكن تبقى هناك مخاطرة حقيقية في أن نسمح للآلات بتشكيل أفكارنا.

يطرح هذا التساؤل: إذا كانت الآلات ستتولى مهمة تقديم الحلول للأزمات الفكرية والاجتماعية، فماذا سيبقى من الإبداع البشري؟ الباحثة في مجال الأخلاقيات الرقمية، لورا هاينز، أكدت في دراسة لها أن “الذكاء الاصطناعي قد يساهم في القضاء على التنوع الفكري، الذي يعد من أهم مقومات الابتكار والإبداع، وذلك بسبب الاتجاه نحو أتمتة التفكير البشري”.

بناء على هذا، يمكن أن تكون الآلات قادرة على تكرار أفكارنا، ولكنها ستكون قاصرة عن إضافة الجديد. قد تصبح الميزة البشرية الوحيدة هي تكرار ما قدمته الآلات.

لم يعد بإمكاننا أن ننكر وجود الذكاء الاصطناعي كجزء من واقعنا، بل يجب علينا أن نعيد النظر في كيفية استخدامه. إذا أردنا الحفاظ على قيم الإبداع والتفكير النقدي، يجب أن نتبنى الذكاء الاصطناعي كأداة مكملة، لا كبديل.

العمل على تجسير الفجوة بين الإنسان والآلة يحتاج إلى قناعات فلسفية عميقة، ترفض إلغاء الخصوصية الفكرية والتجربة الإنسانية في مواجهة التقدم التكنولوجي.

الفيلسوف الأمريكي “مارشال ماكلوها” قد أشار إلى أن “الوسيلة هي الرسالة”. في عالم الذكاء الاصطناعي، تبقى الرسالة الحقيقية هي كيفية استخدام هذه الوسائل بشكل يخدم الإنسانية ويُعزز من قدرتنا على الإبداع، لا أن يقتلها.

بينما تتسارع وتيرة تقدم الذكاء الاصطناعي، يبرز السؤال المصيري.. هل نسمح له بتوسيع آفاقنا أم نقبل بمغادرته الإبداع البشري؟ من المؤكد أن التكنولوجيا ستظل جزءا من حياتنا، لكن يجب أن تبقى الملكات الفكرية والإبداعية محمية، فهي ما يجعلنا بشرا، وما يجعل عالمنا أكثر عمقا من مجرد نماذج رقمية تحاكي الحياة.

—————————————

هذا المقال جاء كأساس محوري في نقاش كنت قد خضته مع أشخاص في منتدى ثقافي على واتساب، كان هذا جوابي لهم: “بينما نشهد تقدما غير مسبوق في مجال الذكاء الاصطناعي، علينا أن نتذكر أن الإنسان هو من يملك القدرة على خلق المعنى، وليس الآلة. فإذا سمحنا للآلات بالهيمنة على الفكر والإبداع، فإننا بذلك نقتطع جزءا من إنسانيتنا، وهو ما لا يمكن استعادته في المستقبل”.

https://anbaaexpress.ma/tmqv6

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

تعليق واحد

  1. أحييك سي عبد الحي على هذه البصيرة الفلسفية العميقة التي تمثل جرس إنذار في زمن تختلط فيه الأصوات، وتطمس فيه المعايير لعل هذا الطرح يكشف بعض الخبايا ويعري ادعاءات من يتقمصون صفة الكتاب دون امتلاك أدوات الفكر الحقيقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى