في خضم صخب الشعارات البراقة التي ترفعها قناة “الجزيرة” ومنظومتها الإعلامية التابعة للدوحة، يبدو سؤال المعارضة القطرية كجدار غير مرئي لا تكسر حرمة صمته، وكأن التطرق إليه يعد جريمة فكرية أو خيانة وطنية في قاموس إعلام جعل من “الرأي والرأي الآخر” شعار مجوف كلما اقترب من حدود الإمارة الصغيرة.
ورغم تغول “الجزيرة” في تفاصيل الأنظمة الأخرى وتفكيك صراعاتها الداخلية، من مصر إلى سوريا، ومن تونس إلى السودان، تغيب قطر، الدولة والسلطة والنظام، عن هذا المنبر وكأنها جزيرة طوباوية فوق التاريخ والجغرافيا.
فهل يمكن لإعلام أن يصنع رأيًا عاما نقديا في العالم العربي، وهو يكمم فمه عن محيطه الداخلي؟
في قطر، وأنا أخبرها جيدا بحكم تواجدي هناك قبل عشر سنوات لا مكان للمعارضة في الخطاب العام، لا وجوه، لا حوارات، لا حتى إشارات. وأولئك الذين حملوا راية النقد، من مفكرين ومواطنين وناشطين، تم نفيهم إلى الصمت الإجباري، أو دفعهم نحو المنافي البعيدة، دون أن يجدوا منابر داخلية أو عربية تتبناهم، خصوصا في ظل سيطرة الدوحة على جزء كبير من التمويل الإعلامي العربي.
هذه الازدواجية القطرية ليست فقط أخلاقية، بل تكشف عن عقد عميق في بنية الدولة، التي تتوجس من أي صوت يعكر صفو طاعتها الداخلية، بينما تقدم نفسها كمركز للثورات والإصلاح في الخارج.
وهكذا، يصبح شعار “الجزيرة” أشبه بمرآة عاكسة لا تظهر شيئًا من ملامح البيت القطري، بل توجه العدسة نحو الجيران، حيث يصبح التدخل في شؤون الآخرين فضيلة، بينما يصبح النظر إلى الداخل خيانة كبرى.
وما يزيد الصورة تعقيدا هو شعور قطر التاريخي بعقدة نقص تجاه الدول ذات العمق الحضاري والثقافي، وفي مقدمتها المغرب، الذي وقف معها زمن الحصار الخليجي دون ضجيج ولا ابتزاز، وفتح أجواءه وموانئه أمام البضائع والمساعدات القادمة من تركيا وإيران، دون أن يطلب مقابلاً سياسياً أو إعلامياً، وهو موقف أخلاقي يفترض أن يقابل بالاحترام والامتنان، لكن الرد القطري كان غامضا وباردا، بل وفي أحيانٍ كثيرة متعاليا.
فدولة قطر، المحكومة بتركيبة قبلية حداثية هجينة، تعيش مأزقا سيكولوجيا حادا أمام نماذج الدول المستقرة ذات العمق التاريخي، ما يدفعها إلى محاولة فرض ثقلها الناعم عبر المال والإعلام والتغلغل في الفضاء الثقافي والسياسي العربي.
غير أن هذه القوة الناعمة لم تسعفها في بناء صورة متوازنة، بل كرّست تناقضًا صارخا بين خطابها الخارجي المتمرد وسلوكها الداخلي القامع.
هذا التناقض يتجلى بوضوح في موقفها من قاعدة “العديد” الأمريكية، التي تمثل حجر الزاوية في الاستراتيجية العسكرية الغربية بالمنطقة، والتي لم تكن فقط محطة دعم للغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، بل صارت اليوم، وبحسب تقارير دولية، مركز تنسيق لوجستي لعمليات الاحتلال الإسرائيلي، سواء في فلسطين أو المنطقة برمتها.
فكيف لدولة تدعي مناصرة القضية الفلسطينية أن تفتح أراضيها لقاعدة تستخدم في سحق الشعب الفلسطيني؟ بل كيف تسمح قطر لنفسها بتقديم المنصات الإعلامية للمظلومية العربية، وهي في ذات الوقت تموّل صمتا متواطئا حول الدور الكارثي لقاعدتها الاستراتيجية؟
هذا الصمت، المزدوج من الدولة والإعلام، لا يمكن تفسيره إلا في إطار توازنات سياسية واقتصادية تتجاوز قدرة الجزيرة على النطق، وتجعلها تتحول من “منبر حر” إلى أداة ناعمة لتجميل الاستبداد والتعمية على الحقائق.
إن مأزق قطر لم يعد في كونها بلا معارضة، بل في كونها دولة تسجن الحقيقة وتشتري الصمت، وتصنع ضجيجا لا يراد منه إلا إخفاء الفراغ الداخلي.
وبينما تسارع الدول الأخرى إلى مراجعة ذاتها، ومصالحة شعوبها، ما تزال قطر تدور في فلك نفوذها الرمزي، معتقدة أن المال وحده كفيل بصناعة الشرعية والهيبة.