هذه المرة لن تكون العبر-مناهجية ممارسة صامتة كتلك التي عاقرناها قبل ثلاثة عقود، بل هي اليوم صرخة عالية تتطلب تحسيسا منهجيا ومتابعة حثيثة، إنقاذا للعقل البشري، بعد أن دبّ داء الحصر إلى العقل نفسه، ولم يعد ينفع مطلب التعقيل والمعقول، أو حين بات المعقول هو نفسه ضربا من المنقول.
لقد أطلقنا هذه الصرخة عربيا، ولكن لا بدّ من وجود محاذير. فليس الإبداع في دنيا البشر انبثاق موجود من العدم، هذه نظرة قاصرة تروم إلى جعل البشر آلهة. لا يوجد شيء غير منصهر في ملحمة طويلة من التّناص، كما لا يوجد ما يسقط سهوا من دون مخاض تتيحه الخبرة اللاّشعورية الجمعية. وهذا هو وضع العبر-مناهجية، فهي تدخل في مطلبنا هذا في واجب التطوير لإطارها، فهي خاضعة للجعل المركب لا البسيط.
ليست العبر مناهجية موضة كسائر الموضات، سرعان ما تصبح أعقاب مفاهيم على رصيف المعرفة. هذا البؤس “الجانفالجاني” على طريق المعرفة هو تشويش يزيد الطين بلّة ويدرب العقل على ثقافة النّشل، التي تزيد المعرفة اضطرابا واختلالا.
تقتضي العبرمناهجية إنسانا عبر-مناهجيا تجاوز الأطوار “الداروينية”، ودخل في أطوار الأومو -سابان وصولا إلى الأومو- ليدنس، أي طور الإنسان اللّعبي الذي يتقيد بقواعد اللعب بجدية ولا يفسد “الماتش”.
بمعنى أنّ المعرفة هي مسار تحرري وجدّي وإبداعي لا يقف عند استهلاك أعقاب المفاهيم. ومن هنا فالعبر-مناهجية لا زالت تنتظر تفاعلا وتطويرا باعتبارها إطارا لا ينفع معه مجرد التمثّل، كما لو أنّها موضوعا في ذاتها وليست موضوعا لغيرها. وكم يحتاج الإنسان إلى استيعاب هذا الوضع المزري للمعرفة في زمن السير في حالة النوم.
الفكرة التي أريد تأكيدها على طريق إنماء الموقف العبر-مناهجي هو أنّ العبر-مناهجية مفهوم لغيره وليس مفهوم لنفسه. وهذا ما يجعلها إطارا لتعزيز الإبداع وليس تعزيزا لتقاليد التّمثّل الرخو والتقليد والتكرار. هي إذن فرصة لتفجير حدود المعرفة، لمزيد من الإنصات للحدس العظيم الذي يربط بين اللاّشعور المعرفي والعالم، بين الظاهر والباطن.
لقد توصّل إدغار موران إلى فكرة تركيب العالم، وطوّرها باساراب للحديث عن منطق التناسب بين تعقيد الواقع وتعقيد النظرية، لكن ما نسعى إليه هنا يلحّ في السؤال:
كيف يا ترى يتحقق هذا التناسب المزبور؟
عند التطبيق، لن يكون الانتقال من حقيقة تركيب الواقع إلى تعقيد النظرية أمرا متاحا، بل هذا الأمر لا مناص من أن يتطلّب تصالحا مع الحدس العميق. لا يمكن عبر الوعي، مهما تحقق التهامس مع الذات، أن نبلغ هذا التركيب.
إنّ اللاّشعور العميق ليس مخزنا للنفايات السيكولوجية، بل هو خبرة ومكمن لتجارب معرفية أيضا، وهو عقل لا يأخذ قراره من الكاطيغورياس. حتى زمن الاستيعاب اللاشعوري لتركيب العالم هو أشبه بالزمن الكمومي.
الحدس العظيم الذي يواكب العملية المعرفية، هو حدس يتنامى باستمرار. موضوع التركيب إذن هو الحدس العظيم، وعلى المعرفة في شروطها المنهجية القائمة على عبادة المنهج أن تخلي الطريق أمام ممكنات المعرفة ومغامرة العقل خارج سلطة النموذج المعرفي.
تمنح العبر-مناهجية فرصة أخرى للتحرر من سطوة الباراديغم، لا سيما حينما يصبح أقل جودة أو يتحوّل إلى إطار معيق لتدفّق شلال الحدس.
الوعي بالعبر-مناهجية كإطار أو منهج في المنهج لا يعني أنها ليست مركوزة في طبائع الحكمة البشرية.
فالاكتشافات الكبرى هي في نهاية المطاف عبر-مناهجية، حيث في البحث العلمي لن نحقق طفرة من دون قفزة أو نوبة عبر-مناهجية غير معلنة، تجعل العالِم في حالة إنصات لحدسه العميق. لا يمكن أن تولد الفرضية إلاّ من هذا الانقطاع.
ويبدو لي أنّ من يتعاطى العبر-مناهجية كموضوع تمثّلاتي وتقليد، لن يدرك روحها، حيث ليس له إلاّ أن يتعاطاها بمنطق الحصر المنهجي، ويخضعها لما كانت فيه ثورة جذرية. العبر-مناهجية هي في نهاية المطاف مصالحة مع الحدس العظيم، وحده الذي تدين له البشرية والبرهان نفسه بالكثير.
غير أن تضخم تقاليد الإطار على حساب الحدس يوشك أن يؤدّي إلى جمود الحدس، فهذا الأخير هو نفسه نتيجة تدريب وإنماء. إن طريقة تعاطينا مع العلم كإطار معرفي في غياب القدرة على الإمساك بروح العلم، أو حين يختزل العلم في نتائجه وليس في شروط تولُّد النظرية، لن يكون علما. فالعلم هو استيعاب روحه، لا نتائجه فحسب.
وكذلك، إنّ العبر-مناهجية هي روحها وليس سرد تاريخها كطريقة. إنّ العبر-مناهجية هي إطار لإنقاذ العقل والنفس، هي وسيلة للربط والتجاوز، هي وصل بين المعرفة والوجود تعزيزا للمقصد الأعلى للحكمة المتعالية، حيث المعرفة هي عين الوجود.
أطلقنا قبل فترة صرخة العبر-مناهجية ووضعنا إضاءات في طريقها باعتبار أنها هي ما تبقى من فرص لإنقاذ المعرفة وتحرير الميتافيزقا وإعادة اكتشاف اللحظة الأنطولوجية الخصيبة.
وهي صرخة تهدف إلى التحسيس بالمصير المجهول لمعرفة ظلت وفيّة لعبادة المنهج في أطواره ما قبل العبر-مناهجية، ومن هنا هي صرخة معرفية وأيضا تربوية لإدخال العبر-مناهجية في الأنظمة التربوية، صرخة عربية لإكمال مشوار ذلك الميثاق العبر-مناهجي، ولكن من خلال تبييئ العبر-مناهجية في خبرتنا التي تدعو للمصالحة مع مشروع الإستيعابية، لأنّنا ومن دون روح العبر-مناهجية لن نتمكن من ردم الهوة بين العلوم، وستظل العبر-مناهجية إن لم نتعاطاها بروح عبر-مناهجية، تجربة أخرى تنذر بالعقم العلمي والمعرفي.
تتطلب العبر-مناهجية قدرا من الرّويّة، فهي صرخة لها في تجربتنا المعرفية تاريخ ضارب واختبارات قصوى، وسرديّة لا تقبل النّطّ على طريق زلق، وواقع مركب، وذات سيكولوجية لا زالت ترخي بظلالها على أساليب معاقرة المعرفة.
إصلاح ذات الحامل للمعرفة هي شرط في تحقيق أهدافها الكُبرى، أيضا لا قيام لعبر-مناهجية من دون ذات عبر-مناهجية، من دون عبور كل الأعطاب النفسية المعيقة لإنجاز مشروعية الإبداع الصحيح خارج كل أشكال الإلتباس، وإعادة إنتاج ما فقد من المعرفة جدواه.
بين الإبداع وسواه بون شاسع أشبه بالفارق ما بين من يشرب سيغارا كوبيا وبين من يشرب أعقاب سجائر زرقاء.
ثمة أخلاق عبر-مناهجية، أوّلها الإخلاص للمعرفة وثانيها الإنصاف والاعتراف وثالثها الضمير المهني للمعرفة ورابعها انشغال الذّمة بالواجب وخامسها المحبة.
من فضلك ممكن كتابة مصطلح العبرمناهجية بالإنجليزية.