قبيل شهر فقط، أطلق الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون تصريحًا لافتًا قال فيه: “لن أذهب إلى كانوسا”، في إشارة ساخرة يفهم منها العارفون أنها تعني رفضه التوجه أو الرضوخ لفرنسا، رمزًا لما يعتبره تبون ومحيطه الرسمي “الإملاءات الاستعمارية”، بمعنى لن يخضع تبون لأوامر أحد.
وقد رُوِّج لهذا التصريح على نطاق واسع في وسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية الموالية للنظام، في محاولة لإبراز موقف سيادي قوي يغازل الحس الوطني الجزائري وشعوبي.
لكن شهرًا واحدًا فقط بعد هذا الموقف “الصارم”، تغيرت النغمة، وانقلبت المواقف. إذ بدأت الجزائر في تقديم سلسلة من التنازلات السياسية والاقتصادية تجاه باريس، في مشهد يعيد إلى الأذهان مقولة شهيرة في السياسة: “الواقع أقوى من الخطابات”.
من التصعيد إلى التراجع
منذ أشهر، كانت العلاقات الجزائرية-الفرنسية تمرّ بتوثر غير مسبوق، بسبب ملفات الذاكرة، والهجرة، والوضع في الساحل، إلى جانب الدور الفرنسي في ملف الصحراء المغربية.
لكن ضغوط الواقع الجيوسياسي والاقتصادي دفعت الجزائر إلى مراجعة مواقفها. فقد أظهرت الأسابيع الماضية إشارات واضحة لتقارب جديد بين الجزائر وباريس، سواء من خلال اتصالات دبلوماسية رفيعة، أو عبر بوادر استئناف التعاون في ملفات الطاقة والهجرة والأمن بعد المكالمة الهاتفية بين ماكرون وتبون.
ماذا تغيّر؟
ما تغير ليس فقط الخطاب، بل طبيعة التحالفات والمصالح. فالجزائر تجد نفسها اليوم في وضع صعب إقليميًا ودوليًا:
• توتر العلاقات مع دول الجوار مثل المغرب وتونس ومالي.
• فقدان التأثير في الساحل الإفريقي بعد الانقلابات العسكرية وانسحاب فرنسا من المنطقة.
• أزمة اقتصادية كامنة تُنذر بعودة الاحتقان الشعبي.
• عزلة سياسية نسبية في المحافل الدولية، خصوصًا مع الغموض في الموقف الروسي والتردد الأوروبي.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن المؤسسة العسكرية، التي تُمسك بمفاصل القرار الحقيقي، فضّلت خيار البراغماتية والتهدئة، خاصة مع العواصم الغربية إذ أرغمت الرئيس الجزائري إلى العدول عن تصرفاته الصبيانية التي لا تنم صلة مع موقف رئيس محترم وواقعي.
الخطاب شيء.. والسياسة شيء آخر
تصريحات تبون لم تكن الأولى من نوعها. فالرئيس الجزائري دأب منذ توليه المنصب على استخدام خطاب سيادي مشحون بالمصطلحات التاريخية.
لكنه في الواقع في نهاية المطاف يفرض عليه التفاوض في الكواليس ويبحث عن صفقات تحفظ الاستقرار الداخلي، وتُرضي الشركاء الدوليين.
“لن أذهب إلى كانوسا” كان شعارًا إعلاميًا عابرًا، سرعان ما ابتلعه منطق المصالح، ليؤكد مرة أخرى أن السيادة الحقيقية تُبنى بالأفعال لا بالشعارات.
في نهاية المطاف، فإن تبون يحاول “استحمار” الشعب الجزائري مع الاحترام الكامل للشعب الجزائري، متناسيا بأن هذا الشعب الشجاع وشهم وسيحاسبه يوما ما.