آراءمجتمع
أخر الأخبار

تأثير نظام التفاهة.. على منظومة القيم في المجتمع العربي

إن إنقاذ منظومة القيم في المجتمع العربي من هيمنة نظام التفاهة، ليس مهمة سهلة، ولكنه أمر ممكن، إذا وُجد الوعي والإرادة

في زمن تتداخل فيه الوسائط وتتشابك فيه الأدوار، أصبح من الجلي أن “نظام التفاهة” لم يعد مجرد ظاهرة عابرة، بل تحوّل إلى نمط حياة يهيمن على المجتمع العربي ويعيد تشكيل منظومة القيم فيه.

فالتفاهة، حين تترسخ كنظام، لا تقتصر على السطحية أو الابتذال في التعبير، بل تمسّ جوهر ما يعتقد الناس أنه “قيمة”، وتعيد صياغة ما يُعتبر جديراً بالاحترام، وما يُعدّ رمزاً للنجاح أو للفضيلة. بهذا المعنى، فإن نظام التفاهة لا يعمل فقط على تغييب المعنى، بل على إعادة تشكيله وفق مقاييس تجافي العمق وتحتقر الجهد وتُقصي الفكرة، لصالح الإثارة، والنجومية اللحظية، والخفة في كل شيء.

في هذا النظام، تنقلب القيم رأساً على عقب: يُحتفى بمن يصرخ أكثر لا بمن يفكر أعمق، ويُسلَّط الضوء على من يُضحك الناس لا من يُنير وعيهم، ويُكافأ من يساير الرأي العام حتى لو كان بلا مضمون، بينما يُقصى من يُشاغب السائد ويطرح الأسئلة الصعبة.

في ظل هذا التحول، لم تعد القيم مثل الأمانة، والاستقامة، والاجتهاد، والصدق، والتواضع، تُعتبر علامات على النبل أو على التفوق الاجتماعي. بل باتت تُستبدل بقيم أخرى سطحية مثل الشهرة، والربح السريع، والمظهر، وعدد المتابعين، والقدرة على الترويج الذاتي حتى لو كان المحتوى فارغاً.

ومن أخطر ما ينتجه هذا النظام هو تطبيع الرداءة وتحويلها إلى المعيار. لم تعد التفاهة تُواجه بالنقد أو بالحياء، بل أصبحت نوعاً من “النجاح”. حينما يظهر شخص بلا أي كفاءة فكرية أو أخلاقية ليُصبح قدوة تُقلّد، أو “رمزاً” يُحتفى به، فإن الطفل الذي يُراقب هذا المشهد لن يرى في المثقف أو العالم أو المربي نموذجاً يُحتذى، بل سيطمح لأن يكون مثل ذلك الذي يُكافأ بلا جهد، ويُصفّق له بلا مضمون.

وهنا بالضبط تبدأ منظومة القيم في الانهيار، حين يتعلّم الجيل أن الطريق إلى النجاح لا يمر بالاجتهاد، بل بالمسايرة والادّعاء والتصنّع.

هذا التأثير لا يقتصر على الأفراد، بل يتسرّب إلى المؤسسات. فحتى مؤسسات التعليم، التي يُفترض أن تكون حصناً منيعاً ضد الرداءة، باتت في أحيان كثيرة تكرّس القيم نفسها: النجاح بالشكل لا بالمضمون، التقدير للمظاهر لا للمعايير، والخوف من النقد لأنه “يُزعج” أو “يحرج”.

المؤسسات الثقافية أيضاً فقدت بوصلتها، فتخلّت عن دورها التنويري، وأصبحت تُطارد الأرقام والانتشار على حساب الرسالة والقيمة.

أما الإعلام، فقد أصبح أداة رئيسية في تعميم التفاهة، من خلال انتقاء “نجوم” يعكسون أخف الصور وأكثرها استهلاكاً، لا أكثرها إلهاماً أو تعقيداً أو إغناءً للوعي.

الخطير أن هذا النظام لا يفرض نفسه بالقوة، بل عبر الإغواء، فيُقدَّم للمجتمع على أنه طبيعي أو “عصري”، ويُربط بالحداثة والانفتاح، بينما هو في الحقيقة تراجع إلى النمطية والتسطيح.

وحين يُربط النجاح بالقدرة على مسايرة هذا النظام، فإن أصحاب المبادئ والقيم الأصيلة يجدون أنفسهم غرباء، وقد يشعرون أحياناً بأن التمسك بالنزاهة أو الجدية أو الفكر العميق هو ضرب من العبث أو التأخر عن “ركب العصر”.

وهكذا، يغدو المبدع الصادق غريباً، والمفكر الحقيقي مهمّشاً، والمربّي الجاد موضع تهكم، في حين يُحتفى بالمقلدين والمهرّجين والمستهلكين للمعنى دون أي إضافة.

ومع مرور الوقت، تتغير اللغة نفسها، وتتغير معها حساسية الناس تجاه القيم. تُصبح كلمات مثل “الكرامة”، “النزاهة”، “الصدق”، وكأنها شعارات قديمة، أو مُثُل طوباوية، لا محل لها في الواقع “العملي”. وتُستبدل بها كلمات مثل “الفرصة”، “الذكاء الاجتماعي””التأقلم”، التي تُخفي أحياناً الكثير من الانتهازية والبراغماتية المفرغة من الأخلاق.

هذه اللغة الجديدة ليست بريئة، لأنها تعيد تشكيل العقل الجمعي بطريقة تُربّي على التبرير، لا على النقد، وعلى المسايرة لا على الصمود، وعلى القبول بالوضع القائم لا على تغييره.

ومع كل هذا السواد، تظل هناك ومضات من الأمل، تتمثل في أولئك الذين يرفضون أن يصبحوا جزءاً من هذه المنظومة، ويصرّون على الحفاظ على قيمهم، وعلى تربية أبنائهم على التمييز بين النجاح الحقيقي والنجاح الزائف.

هي مقاومة صامتة أحياناً، ولكنها ضرورية، لأنها تشكل الخيط الأخير الذي يربط المجتمع بماضيه الأخلاقي وممكناته المستقبلية.

فالمعركة ضد التفاهة ليست فقط معركة ثقافية، بل هي أيضاً معركة وجودية، تُحدّد من نحن، وما الذي نعتبره مهماً في حياتنا، وما الصورة التي نريد أن نتركها للأجيال القادمة.

إن إنقاذ منظومة القيم في المجتمع العربي من هيمنة نظام التفاهة، ليس مهمة سهلة، ولكنه أمر ممكن، إذا وُجد الوعي والإرادة. البداية تكون بإعادة الاعتبار للفكر، وإحياء الحس النقدي، والاحتفاء بالقيمة لا بالصورة، وتكريم العمل الجاد لا الأداء الزائف. حينها فقط، يمكن أن نبدأ بالخروج من هذا التيه، ونستعيد المعنى في زمن يُراد له أن يعيش بلا بوصلة. 

https://anbaaexpress.ma/9elk9

محمد بوفتاس

كاتب صحفي وسيناريست مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى