أبدع العلماء العرب والمسلمون في كافة مجالات العلم البشري، وحملوا مبكراً مشعل الحضارة في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تعيش في ظلام عميق على كافة المستويات .
وقد شهدت الدولة العربية الاسلامية تطور الحركة العلمية وازدهارها حضارياً واحتضن الخلفاء العلم والعلماء، وشغفوا بمختلف فنون العلم والمعرفة.
ولم يكن العلماء العرب والمسلمون ليبلغوا ما بلغوه من دقة لولا استخدامهم أفضل الآلات المتوافرة آنذاك، وأبدعوا فيها وابتكروا آلات فلكية غاية في الدقة والإبداع ساهمت في تطور علم الفلك مما أسهم في تنظيم شؤون الحياة وتقدم العلوم .
من تلك الآلات الفلكية التي استخدموها في مراصدهم هي “ذات الحلقة”، وتسمى أحياناً “الملحقة”، أو “الملحقات”. وتعد أول آلة رصد صنعت في الإسلام، وقد صنعها ابن خلف المروزي بناء على طلب الخليفة العالم عبد الله المأمون (170 – 218هـ / 786- 833م) والذي يعد عصره من أزهي عصور الحركة العلمية في تاريخ الحضارة باعتراف مؤرخي الشرق والغرب على حد سواء.
وقد ازدهرت المراكز التعليمية والبحثية في ذلك العصر الذهبي وتمتعت بمزايا غير مسبوقة جعلت تلك المراكز البحثية في مصاف المراكز العالمية المعترف بها إلى درجة أن عدداً من المؤسسات والمراكز البحثية العالمية قد تأثرت بتلك المراكز -كما سنثبت في هذا البحث- وأن عدداً من مكتبات العالم الكبرى قد سارت في تأسيسها ونظم التعامل بداخلها على غرار تلك المؤسسات التي ظهرت في عهد المأمون.
وذلك حسب قول ابن النديم في كتاب “الفهرست”.
وآلة “ذات الحلقة” تتكون من خمس حلقات نحاسية متداخلة تمثل حركة الأجرام السماوية ودوائر العروض المختلفة ، ومن أهم مميزاتها العلمية أنها تعطي تصور لنموذج الأشياء في القبة السماوية.
وذات الحلقة هي آلة عظيمة تتكون من هيكل دائري به حلقات في مركزها الأرض، تمثل خطوط الطول، وخطوط العرض الكونية، وظواهر فلكية مهمة كمسار الشمس، وهذا يعد إبداع فلكي عالي المثال، وهو ما يؤكد أن العرب والمسلمون قد اقتربوا كثيراً مما نعرفه اليوم .
وتتكون من خمس دوائر نحاسية متحدة المركز، وتكون الأرض في مركزها والأجرام حولها:
الدائرة الأولى: وتسمى دائرة نصف النهار؛ وتكون مثبتة في الأرض. وفيها قطر مقعرها مساو لقطر محدب الطول الكبرى.
الدائرة الثانية: يطلق عليها الدائرة الشمسية وعن طريها يستدل على سمت الكواكب.
الدائرة الثالثة: تعرف باسم دائرة منطقة البروج.
الدائرة الرابعة: تسمى دائرة العروض. وقـطـر مـحـدبـهـا قـدر قـطر مـقـعـر حـلـقـة الـطـول الـصـغـرى.
الدائرة الخامسة: تعرف باسم دائرة الميل.
ونورد فيما يلي لوحة نادرة من مخطوطة تبين الفلكيين وهم يخططون أجزاء مختلفة من ذات الحلقة مع نجوم معينة بحيث يستطيعون إنتاج خرائط مسطحة للسماء، تحدد عليها المواقع وتحول إلى أسْطُرلاب؛ ثم ترشد هذه الأَسْطُرلابات الناس، باستخدام النجوم .
مما سبق يتضح لنا أن العلماء العرب والمسلمين أبدعوا في مجال علم الفلك، واخترعوا أنواعاً عديدة من المجسمات التي تمثل بشكل مادي ما كانوا يرونه في السماء.
وانشئت بناء على فكرة أن الأرض محاطة بكرة من النجوم، وكان من بين تلك الإبداعات العربية الإسلامية ذات الحلقة هو ما أثار تعجب ودهشة المستشرقة الألمانية المنصفة سيجريد هونكة من دقة تلك الحلقات وترقيمها في كتابها الرائع “شمس العرب تسطع على الغرب”.