آراءثقافة
أخر الأخبار

إحسان عبد القدوس ورواية “الوسادة الخالية”

الميكرو نوفيلا الرومانسية.. أو كيف نُكثّف الألم ؟

حميد عقبي

حين نعود إلى نص الوسادة الخالية للكاتب المصري إحسان عبدالقدوس، بعد عقود من صدورها، يمكننا أن نقرؤها بوصفها عملاً رومانسيًا ساحرًا، أو كنصٍ ارتبط في ذاكرتنا – وخاصة بفضل صورة عبد الحليم حافظ على الشاشة.

لكنّ ما يظل أكثر رسوخًا هو هذا الخيط المشدود بين الحلم والخذلان، بين العاطفة الجارفة والهزيمة الناعمة. لم تُصنَّف الرواية في زمنها كـ”ميكرو نوفيلا”، ولم تكن هذه التسميات رائجة أصلًا في الأوساط النقدية العربية آنذاك، لكن النص، كما هو بين أيدينا، يكاد يجسّد جوهر هذا الشكل الجديد من السرد: رواية مكثفة جدًا، لا تتعدى الصفحات المئة، لكنها تقول الكثير دون أن تثرثر.

الرواية صيغت بلغة خافتة وهادئة لكنها مُتقدة، بلغة تُضمر أكثر مما تُظهر. والمشهد العام لا يحتاج إلى استعراض: شاب اسمه “صلاح”، يفتقد حبيبته الأولى، ويتنقّل بين محاولات فاشلة للنجاة من ظلّها، ويقع في علاقات لا تمنحه شيئًا سوى المزيد من الخواء والضياع. كل ما تبقى هو وسادة خالية، فراغ مادي لا يملؤه الجسد، وفراغ روحي لا يُملأ بالكلام.

خاصية التكثيف.. كيف تتحول التجربة الداخلية إلى حكاية؟

ليس التكثيف هنا اختصارًا للمشاهد أو بترًا للأحداث أو عرض البسيط منها، ولا عرضًا سريعًا لقضايا عابرة صغيرة. إحسان عبد القدوس لم يقلّل من العناصر الفنية، لكنه أعاد ترتيبها على نحو جعل كل سطر يؤدي وظيفته، وكل كلمة تُغني عن مئة. لا توجد جملة زائدة، ولا وصف مستهلك، ولا تكرار يُضعف الإيقاع. الزمن في الرواية ليس خطيًا، بل داخليًا، يعمل على شكل ومضات، ذاكرة تتقدم وتتراجع وفق منطق الانفعال.

كل مشهد يؤدي وظيفة مزدوجة: يتقدّم بالسرد خطوة، ويكشف عن طبقة جديدة في وعي البطل. الحبكة لم تقم على الأحداث، بل على تغيّرات في درجة الشعور. وهذا بحد ذاته عمل سردي دقيق يتطلب براعة إبداعية في مراقبة الشخصية من الداخل دون السقوط في الخطابية أو التحليل النظري والمونولوجات.

تحليل مكثف للبطل: صلاح، ذلك الذي لا يُشفى

صلاح ليس بطلًا بالمعنى الكلاسيكي، بل هو راصد لنفسه، غارق في هشاشته. شخصية لا تفعل الكثير، لكنها تفكر كثيرًا، وتحلم أكثر، وتُخفق دومًا في الإمساك بما يشبه السعادة.

إحسان يرسمه من الداخل، لا يصف شكله ولا ملابسه، بل يُمسك بنبضه النفسي، بحيرته، بتردده، بشعوره المُربك تجاه النساء اللواتي يظهرن في حياته لاحقًا كبدائل أو كهروب من سميحة – الحب الأول.

ما يجعل صلاح حيًا في الذاكرة، ليس وضوح ملامحه، بل ضبابيته العاطفية، غرقه في ماضٍ يرفض مغادرته. هو شخصية لا تملك هدفًا، بل تحمل جرحًا وألمًا. والقراءة تصبح متابعة لتأرجحه بين الذكرى واليأس، بين أمل لا يُقال وواقع لا يُطاق.

المتعة في الحكاية المختزلة

رغم الألم، هناك ما هو ممتع في الوسادة الخالية. ليست متعة النهايات السعيدة، بل متعة التخييل. القارئ يُكمّل المشاهد الناقصة، يملأ الصمت، ويشارك البطل في غربته. الرواية لا تعطيك كل شيء، بل تترك ما يكفي من البياض لتعيد تشكيل الحكاية في رأسك.

اللغة هنا حليفة هذا التخييل: رشيقة، هادئة، مشدودة إلى الداخل. كل جملة تُشبه خطوة على حافة الانهيار، وكل مشهد مكتوب كأنه مشهد سينمائي مضغوط لا يتحمّل الزوائد. ليس غريبًا أن تتحول الرواية إلى فيلم، فالسينما تبحث عن هذا النوع من السرد الذي يُمكن نقله بالصورة، باللمحة، وبنظرة تائهة على مقعد خشبي في مقهى.

لماذا نعدّها نموذجًا للميكرو نوفيلا؟

إذا حاولنا فهم الخصائص التي تشكّل ما يُسمى اليوم بـ”الميكرو نوفيلا”، فسنجد أن الوسادة الخالية تنطبق عليها دون الحاجة إلى أي تأويل قسري.

هذا الشكل السردي لا يُقاس بالحجم فقط، بل بمدى قدرته على بناء عالم داخلي مكثف، وتحريك انفعالات كبرى عبر وسائط محدودة. الرواية لا تشرح، بل تُشير. لا تعوّل على تطور خارجي، بل على التحول العاطفي والنفسي.

لا وجود لمعارك درامية واضحة، بل صراع خفي، يعيد ترتيب الخراب داخل الشخصية الرئيسية. من هنا نقرأ الوسادة الخالية لا كمجرد رواية رومانسية، بل كرواية ذات نَفَس داخلي واضح، ذات انضباط شعوري، وبناء متماسك رغم تقشّف الأحداث.

الاختزال هنا لا يُقصي الدراما، بل يركزها. كل شيء يوحي بأن الرواية كُتبت على حافة الوجع، وبتقنية الكاتب الذي يعرف كيف يُشبع القارئ وهو يمنحه القليل فقط.

الرواية كرؤية لا كقالب

من يقرأ الرواية اليوم دون ضغط التصنيفات الجاهزة، سيجد أنها تنتمي إلى أدب يُجيد اختزال الحياة، لا لأن لا وقت لديه، بل لأن الحياة – كما تُعاش – خاصة حين تكون جرحًا، لا تحتاج إلى حكايات طويلة، بل إلى ما يكفي من الصدق والسكينة.

إحسان عبد القدوس لم يصرخ في روايته، بل همس بالكثير. وربما لهذا السبب بقي النص حيًا، يقاوم التصنيف، ويعود كل فترة ليتجدّد في ذهن قارئ يبحث عن نفسه في قصة قديمة.

لماذا نعدّها نموذجًا للميكرو نوفيلا؟

إذا حاولنا فهم الخصائص التي تشكّل ما يُسمى اليوم بـ”الميكرو نوفيلا”، فسنجد أن الوسادة الخالية تنطبق عليها دون الحاجة إلى أي تأويل قسري.

هذا الشكل السردي لا يُقاس بالحجم فقط، بل بمدى قدرته على بناء عالم داخلي مكثف، وتحريك انفعالات كبرى عبر وسائط محدودة. الرواية لا تشرح وتفسر لكنها تُشير وتلمح. لا تعوّل على تطور خارجي، بل على التحول العاطفي والنفسي.

لا وجود لمعارك درامية ضخمة واضحة ولكن تزخر بالكثير من الصراعات الخفية الداخلية،أعاد إحسان عبدالقدوس ترتيب الخراب داخل الشخصية الرئيسية. من هنا فإن قراءة  الوسادة الخالية كرواية رومانسية يكون ظلم لها كونها رواية ذات نَفَس داخلي ساحر ومدهش، ذات تعرجات شعورية، وبناء متماسك رغم تقشّف الأحداث.

الاختزال هنا لا يُقصي الدراما، بل نجح في تركيزها. كل شيء يوحي بأن الرواية كُتبت على حافة الوجع، وبتقنية الكاتب الذي يعرف كيف يُشبع القارئ وهو يمنحه القليل فقط ويثير خياله.

وهنا لا بد من ملاحظة أن الوسادة الخالية، رغم تصنيف البعض لها على أنها “قصة طويلة”، لا تتقاطع مع هذا الشكل من حيث الجوهر.

القصة الطويلة غالبًا ما تُبنى على واقعة ممتدة أو فكرة مباشرة. أما إحسان عبد القدوس، فكتب عملاً فيه كثافة رواية، عمق نفساني، وبنيات شعورية تتدرج بسلاسة، وكل هذا أغناه عن التوسع أو التشعب.

هذه رواية مكتملة، فقط اختارت أن تكون مختزلة ومكثفة.

خلاصة ختامية

نحن أمام عمل روائي مكثّف جدًا، لا ينتمي إلى المدرسة الواقعية التقليدية، ولا إلى الكتابة العاطفية المباشرة. الوسادة الخالية تُقرأ اليوم كنصّ مبكر للميكرو نوفيلا العربية، لكنها قبل كل شيء، حكاية إنسانية خالصة، خافتة، ومؤلمة، تقول ما لا تقوله الروايات الطويلة أحيانًا.

ربما لم يقصد إحسان عبد القدوس أن يكتب “ميكرو نوفيلا”، لكنه فعلها بإبداع وأناقة مدهشة. وربما لم يخطط لكتابة رواية تُثير الخيال أكثر مما تحكي، لكنها بقيت خالدة، بكل جمالها وبساطتها، أكثر عمقًا وحياة من كثير من النصوص المصنوعة والمتورّطة في التكلّف.

* ناقد ومخرج سينمائي يمني مقيم في باريس

https://anbaaexpress.ma/k13t7

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى