آراءالشأن الإسباني
أخر الأخبار

يوسّا… الحرف الذي كتب الثورة بصمتٍ أنيق

في العالم العربي، لم يكن اسم يوسا مجهولًا. بل إن وجوده تكرّس بفضل ترجمات صالح علماني، الذي أحسن الغوص في روحه، ونقلها إلينا بلغتنا التي تحتمل الموسيقى كما تحتمل الثورة..

في زمنٍ يكتب فيه الكثير ويقال فيه أكثر، اختار ماريو فارغاس يوسا أن يكون كاتبا يشبه الهمس، وصوتا لا يعلو لكنه لا يخفت. لم يكن ثوريًا يصرخ، بل روائيا يحدث الزلازل بجملةٍ هادئة. كتب عن الطغاة والحرية والجنون والجسد، لكن بأسلوب يشبه صلاة داخلية، تزلزل القارئ من الداخل. هذا المقال رحلة في عالمه، حيث الأدب ليس مجرد كتابة، بل مقاومة ناعمة، وحكاية لا تموت.

ثمة كتاب لا يرحلون، وإن توقف نبض القلب. يظلون أصواتًا تمشي على الورق، تنبض في الكتب، وتحيا في الجمل الطويلة التي كتبها زمنٌ لا يتكرر.

من هؤلاء، كان ماريو فارغاس يوسا… الكاتب الذي كتب العالم وهو ينظر إلى الداخل، والإنسان وهو يتهجّى الحرية كأنها صلاة. رحل يوسا، بصمت يشبه بوحه. رحل بعدما أهدى للحياة مكتبة من النبض، ومدرسة في الإبداع، ومسارًا أدبيًا تقف عنده الأمم بوقار. لم يكن مجرد روائي لاتيني، بل كان نسيجًا وحده. أنيق العبارة، عميق الرؤية، متناقضًا كالحياة.

كتب عن الجنون والسياسة، عن الحب والثورة، عن الجسد والسلطة، وكتب عن بيرو كأنها وطن القارئ كلّه. يوسا: الكاتب الذي لم يُهادن منذ روايته الأولى “المدينة والكلاب” (1963)، بدا واضحًا أن ماريو لا يُشبه أحدًا. لم يكن تلميذًا في مدرسة الواقعية فحسب، بل كان مُعلّمًا متمرّدًا على القوالب. فضح في تلك الرواية عنف المؤسسات العسكرية، وغاص في خبايا النفس البشرية المقهورة وسط أنظمة القمع..

ومنذ تلك اللحظة، أعلن الأدب اللاتيني أنه أنجب ثائرًا جديدًا، لكن من نوع آخر… ثائر يكتب. لا شيء في كتاباته يُجامل الواقع، ولا أحد ينجو من سطوة قلمه. كتب عن الديكتاتوريات، لكنّه لم يكن ديكتاتورًا في لغته. منحتن في وصفه، لكنه حرّ في روحه.

كان دائمًا خصمًا للنفاق السياسي، وعدوًا للاستبداد بكل أشكاله، حتى عندما اقترب من السياسة بصفته مرشحًا رئاسيًا في بيرو، ظل يكتب عنها بعيون الروائي لا بألسنة السياسيين. الكاتب والمرأة والجنون المقدّس لا يمكن قراءة يوسا دون أن نشعر بالمرأة – لا بوصفها جسدًا – بل بوصفها هاجسًا، نداءً، لعنةً وجمالًا.

في روايته الأشهر “شيطنات الطفلة الخبيثة”، ابتكر علاقة عجيبة بين رجل لا يكف عن الحُب، وامرأة لا تكفّ عن الهرب. كانت الطفلة الخبيثة امرأة مستحيلة، تتقن التنكر والتعدد، كما تتقن الحياة. لم يكن يوسا يكتب قصة حب تقليدية، بل كان يكتب عن الإنسان الذي يبحث عن جوهره في الآخر، ويظل يطارده في كل المرايا. الحب عند يوسا جنون مقدّس، ومأساة وجودية. كل علاقة لديه تُصبح ساحةً لصراع أعمق: بين التملك والتحرر، بين الذات والظل، بين الحنين والحقيقة. عن الطغاة والأدب كمرآة في روايته “حفلة التيس”, عاد يوسا إلى أرشيف الدم ليكتب عن طاغية جمهورية الدومينيكان، رافائيل تروخيو.

لكنّ الرواية لم تكن عن شخصية واحدة، بل عن كل الطغاة الذين مرّوا، والذين ما زالوا يتكاثرون في العقول قبل أن يجثموا على الكراسي. يوسا لم يكن يؤرّخ، بل يعرّي. ولم يكن يكتب عن القسوة بقدر ما كان يفضح هشاشة الأنظمة، وخضوع الجماهير، وسادية السلطة عندما تُصفّق لنفسها. الديكتاتور في رواياته لا يشبه الوحش، بل الإنسان الذي يختار الوحشية لأنه يعشق الأبدية، ويخشى السقوط.

لذلك، فإن أدب يوسا كان بمثابة مرآة مخيفة، نُطلّ عبرها على أعماقنا، لنرى كم من الطغاة تسكننا بصمت.

الحضور العربي: مترجمون عبروا بنا إلى الضفة الأخرى

في العالم العربي، لم يكن اسم يوسا مجهولًا. بل إن وجوده تكرّس بفضل ترجمات صالح علماني، الذي أحسن الغوص في روحه، ونقلها إلينا بلغتنا التي تحتمل الموسيقى كما تحتمل الثورة.

لم نكن نقرأ مجرّد سرد، بل نقرأ يوسا كما هو: مشتبكًا مع السياسة، مغويًا بالمجاز، ساخرًا بحزن، وحزينًا برقة. وقد تنوع حضور أعماله بين القارئ العادي والدارس الأكاديمي، إذ أُدرجت رواياته في مناهج دراسية جامعية في أقسام الأدب المقارن واللغة الإسبانية في أكثر من بلد عربي. كما ناقشتها النوادي الأدبية، وتوقفت عندها البرامج الثقافية، خاصة تلك التي تعنى بالأدب المترجم، ما جعله واحدًا من أكثر الكُتّاب الأجانب تأثيرًا على الذائقة العربية. وحتى خارج الأوساط الأكاديمية، كانت أعماله تُطبع وتُعاد طباعتها مرارًا، وتُباع على أرصفة المدن، في القاهرة وبيروت ودمشق والرباط والجزائر، مثل أيقوناتٍ سردية مألوفة، تنتمي إلينا رغم البُعد.

بعض القرّاء العرب رأوا في يوسا شبيهًا لكُتّابهم المناضلين، كأنه امتداد لصوت عربي في جسد لاتيني، خصوصًا حين كان يتناول مواضيع تشبهنا: الاستبداد، النفاق الاجتماعي، الحب المعقّد، والجوع إلى الحرية. لذلك، فإن حضوره لم يكن مجرد ترجمة، بل كان انتقالًا للروح. الموت لا يعرف العظماء… لكنه يأخذهم في ربيع 2025، ترجّل الكاتب، لكن صوته ظل قائمًا كأنه يُحدّثنا عبر الصفحات: “لا تُصدّقوا الموت، إنه مجرد كذبة أخرى من كذبات السلطة، أما الكاتب، فإنه حين يرحل، يترك روحه في كل سطر.” يوسّا لم يكن كاتبًا لاتينيًا فقط، بل كاتبًا عالميًا، لأنه كتب عن الإنسان، حيثما وُجد. لم يكتب عن بيرو وحدها، بل كتب عن المدن التي تشبهنا، عن الطغاة الذين نخشاهم، وعن الحرية التي نخاف أن نطلبها. الأدب كطريق للخلاص كان يؤمن أن الأدب ليس للترف، بل للحياة.

أن الحكاية ليست وسيلة للهروب، بل طريقة للفهم. أن الرواية لا تنقلك من الواقع، بل تعيدك إليه، أكثر وعيًا، أكثر وجعًا، وأكثر توقًا للتغيير. لقد جعل من الكتابة مرآة، ومن القارئ شريكًا، لا مستهلكًا. علّمنا أن نقرأ كما لو كنا نحلم، وأن نكتب كما لو كنا نُصارع الظل.

وداعًا ماريو…

أيتها الكلمات، توقفي لحظة. هذا رجلٌ كتبكِ كما لم يفعل أحد، فأحني رأسك.

أيها الحرف، تنحَّ جانبًا، هذا سيدك.

يا أدب، لا تبكِ… فقد ترك لك ماريو خارطة من النور، تضيء بها العتمات.

وداعًا يوسا، الذي كتب كما لو كان يهمس في أذن العالم، ومضى كما يمضي الكبار: في صمت، لكنه صمتٌ يعجّ بالحياة.

https://anbaaexpress.ma/k3k2t

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى