الشأن الإسبانيسياسة
أخر الأخبار

مدريد تراهن على الرباط.. واقع جيوسياسي جديد يتشكل “تحليل”

(....)التعاون بين الرباط ومدريد سيستمر في الازدهار، حيث سيشكلان معًا نقطة ارتكاز للتعاون بين أوروبا وأفريقيا، وفي ظل التغيرات الجيوسياسية الحالية، ستظل هذه العلاقة محورية لاستقرار المنطقة.

يشهد العالم اليوم تحولات جيوسياسية هائلة، وفي قلب هذه التغيرات، تبدو العلاقات بين المغرب وإسبانيا نموذجا متجددا لشراكة استراتيجية تتجاوز السياقات التقليدية. اللقاء الأخير الذي جمع وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة ونظيره الإسباني خوسيه مانويل ألباريس في مدريد لم يكن مجرد حدث دبلوماسي عابر، بل كان بمثابة تأكيد على التحول الاستراتيجي الذي شهدته هذه العلاقات في السنوات الأخيرة.

العلاقات المغربية الإسبانية، التي مرت بفترات من التوتر والشكوك، دخلت مرحلة جديدة مع التحولات السياسية في كلا البلدين. الاجتماع الأخير في مدريد لم يكن مجرد تجديد للاتفاقات السابقة، بل جاء ليؤكد ما بدأه الملك محمد السادس ورئيس الوزاء الإسباني بيدرو سانشيز قبل ثلاث سنوات، حينما وقع الطرفان على إعادة تحديد موقف إسبانيا من قضية الصحراء المغربية، مما أتاح لمسار العلاقات الثنائية أن يشهد مرحلة جديدة من التعاون العميق.

على مدار العقدين الماضيين، كانت قضية الصحراء المغربية واحدة من أبرز الملفات الشائكة في العلاقات بين الرباط ومدريد. ولكن منذ إعلان إسبانيا في أبريل 2022 دعمها لمقترح الحكم الذاتي الذي تقدمت به المغرب في الصحراء، تغيرت المعادلة تمامًا.

في تصريحاته خلال اللقاء الأخير، أكد وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس أن موقف بلاده تجاه قضية الصحراء لا يزال ثابتًا، حيث يعتبر مقترح الحكم الذاتي المقدم من المغرب في 2007 تلأساس الأكثر جدية ومصداقية” لحل النزاع. الاعتراف الإسباني الصريح بمقترح الحكم الذاتي ليس مجرد موقف سياسي عابر، بل هو تحول استراتيجي في السياسة الخارجية الإسبانية.

 فإسبانيا تدرك أن الحل السياسي لهذه القضية يجب أن يكون واقعيًا، ويحظى بقبول دولي واسع، وهو ما توفره المبادرة المغربية التي تحظى بدعم الأمم المتحدة والعديد من الدول الكبرى.

من جهة أخرى، وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة أكد على أن مقترح الحكم الذاتي، يحظى بتأييد دولي واسع، مشيرًا إلى أن هذا الدعم يعد بمثابة اعتراف بشرعية الموقف المغربي على الساحة الدولية.

هذا التناغم بين البلدين في هذا الملف يعكس تقدير متبادل للمصالح الاستراتيجية المشتركة. التعاون الثنائي بين المغرب وإسبانيا لا يقتصر على قضية الصحراء، بل يشمل أيضًا مجموعة واسعة من الملفات الإقليمية والدولية التي تعد مهمة لكل من البلدين.

في هذا السياق، يمكن ملاحظة أن مدريد باتت تراهن بشكل أكبر على دور المغرب كفاعل رئيسي في استقرار المنطقة جنوب المتوسط. ليس هذا فحسب، بل أصبح المغرب أيضا شريكا مهما في مجالات الأمن والهجرة غير النظامية والطاقة.

على سبيل المثال، شهدت السنوات الأخيرة تطورا ملحوظا في التعاون بين البلدين في مجال الهجرة، حيث سجلت السواحل الإسبانية انخفاضا ملحوظا في أعداد المهاجرين غير النظاميين، بفضل التعاون الأمني والجمركي بين البلدين. كما أن فتح المعابر التجارية في سبتة ومليلية (المحتلتين ) يعد تطورا إيجابيا في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين. إسبانيا، التي كانت تواجه تحديات كبيرة في مجال الهجرة والإرهاب، ترى في المغرب شريكا استراتيجيًا يمكنه المساهمة في ضمان الأمن الإقليمي، وهو ما يعزز التعاون بين الجانبين في مجال مكافحة الإرهاب وتهريب المخدرات.

على الصعيد الاقتصادي، هناك تحول ملحوظ في علاقات الرباط ومدريد، حيث حققت المبادلات التجارية بين البلدين في 2024 رقمًا قياسيًا جديدًا بلغ 23 مليار يورو، بزيادة قدرها 7% عن العام السابق. هذا الرقم يعكس قوة الاقتصاد المغربي وقدرته على جذب الاستثمارات الإسبانية، وهو ما يتماشى مع الجهود التي يبذلها المغرب لتعزيز مكانته الاقتصادية كجسر بين القارتين الأوروبية والإفريقية.

تسعى إسبانيا إلى تعزيز هذه الشراكة الاقتصادية مع المغرب، لا سيما في القطاعات الحيوية مثل الطاقة المتجددة، حيث يعتبر المغرب شريكًا مهمًا في هذا المجال بالنظر إلى الإمكانيات الكبيرة التي يمتلكها في الطاقة الشمسية والرياح. إن العلاقات المغربية-الإسبانية اليوم تُمثل نموذجًا يحتذى به في العلاقات بين دول الشمال والجنوب، حيث تبنى على أسس من المصالح المتبادلة والثقة.

وفي عالم تتزايد فيه التحديات الأمنية والاقتصادية، يبدو أن كلا البلدين أصبحا يدركان أهمية التعاون في مجالات الأمن، الاقتصاد، والطاقة. المغرب، من خلال دبلوماسيته المتوازنة، استطاع أن يثبت موقعه كقوة إقليمية وسطى، وأصبح شريكًا لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة لإسبانيا والاتحاد الأوروبي بشكل عام.

وفي المقابل، ترى إسبانيا في المغرب شريكا إستراتيجيًا يسهم في الاستقرار الإقليمي ويُعزز مصالحها في منطقة المتوسط. لقد أظهرت هذه التحولات في العلاقات المغربية الإسبانية أن هذه الشراكة قد تخرج من إطارها التقليدي لتصبح نموذجًا حقيقيًا يُحتذى به في بناء علاقات دولية قائمة على التعاون الاستراتيجي والمصالح المشتركة.

ومن الواضح أن التعاون بين الرباط ومدريد سيستمر في الازدهار، حيث سيشكلان معًا نقطة ارتكاز للتعاون بين أوروبا وأفريقيا، وفي ظل التغيرات الجيوسياسية الحالية، ستظل هذه العلاقة محورية لاستقرار المنطقة.

https://anbaaexpress.ma/moxyo

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى