انشغلت الأوساط المعنيّة بالشأن السوري بقرار بدا مفاجئا اتخذته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتغيير وضع البعثة السورية في الأمم المتحدة في نيويورك من بعثة دائمة لدولة عضو لدى الأمم المتحدة، إلى بعثة لحكومة غير معترف بها من قبل الولايات المتحدة.
وفيما تراوحت تفسيرات القرار الغامض بين طابع تقني لا يقتصر على سوريا ويشمل دولا تشهد قلاقل وجماعات إرهاب، وطابع سياسي يعبّر عن إشارة سلبية ترسلها واشنطن، فإن في التطوّر ما يحبط آمالا بقرب رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، وقد يرخي ظلالا على سلوك دول أخرى في العالم حيال التحوّلات السورية.
ومع ذلك فإن قرار واشنطن نافر يشبه الأسلوب الذي يعتمده ترامب نفسه في التعامل مع ملفات تودّ الولايات المتحدة التأثير بها. ويحمل هذا النهج وجهين.
الأول قد يفسّر بأنه إيجابي يعكس انخراطا أميركيا في الشأن السوري حتى في شكّل متوتّر يكون بديلا عن نهج الغموض المائل إلى التهميش في التعاطي مع أحد أهم التحوّلات السياسية في المنطقة وربما في العالم.
الثاني قد يشي بموقف سلبي من النظام السياسي الجديد في سوريا ومن حكومة الشرع التي أُريد لها أن تكون جامعة تشمل كافة المكوّنات تستجيب لمطالب دولية ومنها أميركية.
يأتي القرار الأميركي ليمسّ رمزا من رموز الاعتراف الدولي بحكومة الرئيس أحمد الشرع، فيما لم تنل واشنطن من الاعتراف بحكومات النظام السابق بشّار الأسد، حتى في عزّ الإدانات الأميركية لذلك النظام، واتهامه بارتكاب الفظائع ضد المدنيين في سوريا، والقطيعة التي اتّسمت بها علاقة البلدين منذ سحب السفير الأميركي في دمشق، روبرت فورد في تشرين الأول 2011.
ويأتي القرار الذي انطوى على تصنيف يشي بأن الولايات المتحدة لا تعترف بحكومة دمشق، على الرغم من تواصل إدارة بايدن السابقة، شبه الفوري، مع الحكم الجديد عبر إرسال مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى آنذاك، بربارا ليف، إلى دمشق، للقاء الشرع، في 20 كانون الأول 2024، أي بعد 12 يوما على سقوط النظام السابق. لتبلغه حينها بإلغاء المكافأة الأميركية لاعتقاله وتصفه لاحقا بأنه “براغماتي”، وتعلن واشنطن بعدها تخفيف العقوبات عن سوريا.
لكن القرار يأتي أيضاً بعد أقل من 3 أسابيع من تواصل إدارة ترامب مع وزير الخارجية السوري أحمد الشيباني.
جرى ذلك في 18 آذار الماضي حين التقت ناتاشا فرانشيسكي نائبة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون بلاد الشام وسورية بالوزير السوري في اجتماع على هامش مؤتمر المانحين لسورية في بروكسل.
لاحقا كشفت “رويترز” أن الدبلوماسية الأميركية سلمت الحكومة السورية قائمة شروط تريد من دمشق الوفاء بها مقابل تخفيف جزئي للعقوبات، منها ضمان عدم تولي أجانب مناصب قيادية في الحكومة والمساعدة في العثور على الصحافي أوستن تايس والوصول إلى أسلحة الدمار الشامل والسلاح الكيماوي، والتعاون في الحرب ضد “داعش” ومنع ظهور التنظيم ثانية. واعتبر اللقاء أول اتصال رسمي لإدارة ترامب بالحكم الجديد في سوريا بعد فترة لاحظ فيها المراقبون تجاهل الادارة الأميركية الجديدة للتحوّلات السورية وعدم التعليق عليها.
كانت واشنطن أفرجت عن مواقف واعدة يمكن البناء عليها. ففي 22 آذار، اعتبر ستيفن ويتكوف، صديق ترامب ومبعوثه إلى الشرق الأوسط أن الشرع تغير عما كان عليه في السابق، قال: “الناس يتغيرون. أنت شخص مختلف تماما في 55 عما كنت عليه في 35. أنا شخصيا أدرك أنني اليوم، في 68 من عمري، لست الشخص نفسه الذي كنت عليه قبل 30 عاما. ربما أصبح الجولاني في سوريا شخصا مختلفا. لقد طردوا إيران من هناك”.
قبل ذلك في 9 آذار، وفي معرض موقفه من أحداث “الساحل” السوري، أدان وزير الخارجية ماركو وروبيو “مجازر” ترتكب بحقّ أقليات في سوريا، وحضّ السلطات الانتقالية على محاسبة المسؤولين عنها.
وقال إن “الولايات المتحدة تقف مع الأقليات الدينية والإتنية في سوريا، بما في ذلك المجتمعات المسيحية والدرزية والعلوية والكردية”. وتابع روبيو “يجب على السلطات الانتقالية في سوريا محاسبة مرتكبي هذه المجازر بحق أقليات في سوريا”.
لم يتهم روبيو سلطات دمشق بارتكاب الانتهاكات بل اعتبرها مرجعا للاقتصاص من الجناة، معترفاً بها لأول مرة في عهد ترامب كطرف يمثّل سوريا يجوز معه التواصل بالنمط الذي جمع الدبلوماسية الأميركية بوزير الخارجية السوري. جرى ذلك تحت سقف أجواء قريبة من ترامب تعتبر أن الشرع تغيّر “لأن الناس يتغيرون”.
ذهب روبيو في 12 آذار إلى الترحيب بالاتفاق بين السلطات السورية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد” وسط أنباء عن ضغوط مارستها واشنطن على حليفها الكردي في سوريا بعقد هذا الاتفاق بعد أيام من زيارة قام بها قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال مايكل كوريلا، إلى شمال شرقي سوريا التقى خلالها قائد “قسد”.
لم تسمح واشنطن باعتماد علم سوريا الجديد ورفضت رفعه على مبنى السفارة السورية المغلق في واشنطن. وأن لا تعترف الولايات المتحدة بالحكومة في دمشق يبقى قرارا سياديا أميركيا لا ينسحب على مزاج عربي وإقليمي ودولي يعترف بالتحوّل السوري ويقيم علاقات دبلوماسية معه.
فالشرع حضر القمّة العربية وزار السعودية وتركيا ويخطط لزيارة الإمارات الأسبوع المقبل، كما عقد معه الرئيس الفرنسي اجتماعا عن بعد بحضور رؤوساء لبنان وقبرص واليونان، ناهيك من زيارات وزراء خارجية أوروبيين إلى دمشق كان آخرها لوزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك الشهر الماضي.
غير أن لواشنطن حسابات أميركية داخلية تتعلق بالحزم مع “الجهاديين” وأشباههم وتضع الشرع و “هيئة تحرير الشام” والفصائل حوله تحت مجهر من التباس. لكن تلك الحسابات تشمل أيضا سياسة ترامب مع كل الشرق الأوسط، لا سيما بأبعاده التركية والإيرانية والإسرائيلية المنخرطة بالشأن السوري أو على علاقة بتحولاته.
والإجراء الذي طال البعثة السورية في نيويورك يتقاطع مع موقف إسرائيل في التوجّس من نظام حكم يبرر تغوّلها في ميادينه وفي التدخل في خرائط البلد ومستقبله. ولا شك أن موقف واشنطن يمثل ورقة ضغط ومقايضة في مداولات الولايات المتحدة مع تركيا أو في محادثات ترامب في السعودية الشهر المقبل.