الركيبي
مرّت 19 سنة على إحداث المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، كمؤسسة تعددية وفضاء للمساهمة في الاقتراح العملي بخصوص قضية وحدتنا الترابية، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للأقاليم الجنوبية.
وقد شُكّل هذا المجلس سندًا حقيقيًا لعمل السلطات العمومية والهيئات التمثيلية بتلك الأقاليم، سواء في تدبير شؤون المواطنين، أو في مجال الترافع عن مغربية الصحراء وطنياً ودولياً.
ومنذ ذلك الحين، دأب مكتب المجلس على عقد اجتماعات، تارة بمقره المركزي وتارة بعمالات الأقاليم، لدراسة قضايا التنمية وفعالية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
كما شارك في لقاءات ومشاورات دولية وجولات المفاوضات الأممية بشأن مقترح الحكم الذاتي، الذي تقدمت به المملكة المغربية كحل نهائي للنزاع طويل الأمد.
غير أن المراقبين للشأن الحقوقي والسياسي في الصحراء يطرحون اليوم تساؤلات ملحة حول ما تحقق فعليًا من منطوق الخطاب الملكي المؤسس للمجلس.
فهل دخل الكوركاس في مرحلة سبات عميق نتيجة غياب التنسيق بين المتدخلين، أم بسبب تقاعس نخب تقليدية أثبتت فشلها في تنزيل الرؤية الملكية، وحوّلت المجلس إلى ساحة لتصفية الحسابات القبلية وتمرير أجندات شخصية لا تخدم الإجماع الوطني؟
مشروع ملكي رائد… وتنزيل عشوائي
لم يكن قرار جلالة الملك بإحداث مجلس ملكي استشاري لشؤون الصحراء إجراءً شكليًا أو ترفًا مؤسساتيًا، بل خطوة استراتيجية لتكريس نموذج ديمقراطي مباشر، يربط المواطن الصحراوي بمؤسسات الدولة، ويجعل من الكفاءات المحلية رافعة أساسية في تدبير شؤون الأقاليم الجنوبية.
لكن التجربة أبانت عن مفارقة صارخة بين التطلعات الملكية وما تحقق فعليًا، نتيجة تغليب منطق الانتماء القبلي أو الانتخابي الضيق على حساب الكفاءة والوطنية والقدرة على التعبير عن هموم وتطلعات السكان.
فقد غابت الرؤية الشاملة، وحلت محلها عقليات التموقع والريع، في تغييب متعمد للكفاءات الصحراوية الحقيقية، خاصة من فئة الشباب والنساء والمجتمع المدني.
وما يزيد من تعقيد المشهد هو الانفراد في اتخاذ القرار داخل المجلس، وغياب الشفافية في تدبير موارده، واتهامات متكررة بالمحاباة والإقصاء الممنهج.
وقد تحوّلت هذه المؤسسة، في أحيان كثيرة، إلى فضاء لتبادل الاتهامات والتجاذبات، بدل أن تكون صوتًا موحدًا يعكس نبض الشارع الصحراوي ويدافع عنه في المحافل الوطنية والدولية.
فشل التمثيلية… وصدى غائب في الخارج
إن من المقلق أن يكون منجز المجلس في الترافع الدولي عن مغربية الصحراء شبه منعدم، باستثناء بعض المشاركات المحدودة في دورات مجلس حقوق الإنسان، والتي لم تؤثر فعليًا في موازين النقاش داخل الأمم المتحدة.
كما أن اعتماد الدولة على النموذج التنموي الجديد للأقاليم الجنوبية يعكس فقدان الثقة في قدرة “الكوركاس” على مواكبة الدينامية الملكية، وتفعيل اختصاصاته في تأطير المواطنين وتعبئتهم.
وقد فشل المجلس أيضًا في القيام بدور فعّال في ملف عودة المحتجزين في مخيمات تندوف، رغم أنه من أولويات خطاب التأسيس. فكيف لمؤسسة بهذا الحجم أن تُعجز عن وضع استراتيجية تواصلية وميدانية تسهم في تعزيز المصالحة الوطنية وإعادة الإدماج الكامل لهؤلاء المواطنين؟
هل تصلح رياح التغيير ما أفسدته الممارسة؟
استبشرت ساكنة الصحراء خيرًا بالتعيينات الملكية الأخيرة في مؤسسات استراتيجية، والتي جاءت بأسماء من مشارب سياسية وثقافية متعددة.
وقد اعتُبرت هذه التعيينات مؤشرات إيجابية على انفتاح الدولة على مقاربة جديدة تُمكن من إعادة هيكلة المجلس، وتنقيته من النخب الريعية والتقليدية التي أثبتت محدوديتها.
واليوم، تعقد فئات واسعة من أبناء الصحراء الأمل على فتح ورش حقيقي لإعادة تشكيل “الكوركاس”، وفق رؤية جديدة تجعل منه مؤسسة فكر وتخطيط واستشراف، وتمنحه دورًا فعّالًا في النقاش السياسي الوطني والدولي، بما ينسجم مع الرؤية الملكية ويعزز مناعة المغرب في ملف وحدته الترابية.
إن دمقرطة تركيبة المجلس، وإشراك ممثلين عن المجتمع المدني، والنساء، والشباب، والقوى المنتجة، والصحراويين المقيمين بالخارج، واعتماد حكامة جيدة في التسيير، كلها شروط ضرورية لجعل المجلس رافعة حقيقية لخدمة المواطنين، والالتحام بمصالح الدولة، وقطع الطريق على الأصوات الانفصالية التي تستغل ضعف التواصل المؤسساتي للتموقع والضغط.
لهذا أصبح من الضروري التغيير، لقد آن الأوان لتقييم جاد وموضوعي لتجربة المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية، والقطع مع كل الممارسات التي جعلت منه عبئًا بدل أن يكون أداة قوة.
وإذا كان المغرب يدافع عن وحدته الترابية بثبات ويحقق مكاسب دبلوماسية متتالية، فإن نجاحه في هذا الورش يتطلب تفعيل كل مؤسساته، خاصة تلك المعنية مباشرة بالصحراء.
فهل نشهد قريبًا ميلاد “كوركاس” جديد، أكثر تمثيلية وفعالية وجرأة في الترافع والتأطير والتواصل؟ أم يستمر الوضع على ما هو عليه، في انتظار زلزال إداري جديد يعيد ترتيب الأوراق من جديد؟