آراءمجتمع
أخر الأخبار

المغرب يعيد النور إلى الأندلس.. دعم تقني برسائل حضارية

لقد أعاد المغرب النور إلى الأندلس، لكن الأهم أنه أعاد إلى الأذهان قيمة الجوار، ومعنى التعاون، وروح التاريخ التي لا تنطفئ

في خطوة  هامة ومؤثرة، وتحمل في طياتها العديد من الحمولات التاريخية والحضارية، قدمت المملكة المغربية دعما تقنيا عاجلا إلى إسبانيا لإعادة الكهرباء إلى إقليم الأندلس، عقب انقطاع واسع النطاق أصاب البنية التحتية للطاقة في المنطقة الجنوبية من إسبانيا.

هذه المبادرة، التي تمت عبر الربط الكهربائي بين البلدين، لم تكن مجرد دعم تقني عابر، بل حملت في طياتها أبعادا رمزية وتاريخية عميقة، أعادت إلى الأذهان العلاقات المتشابكة بين ضفتي البحر المتوسط، وخصوصا بين المغرب والأندلس، التي يجمعهما تاريخ طويل من التفاعل الحضاري والديني والثقافي.

في الساعات الأولى من الأزمة التي ضربت شبكة الكهرباء الإسبانية، أعلنت وزارة الطاقة المغربية استعدادها الفوري لتفعيل خطوط الربط الكهربائي مع إسبانيا، والتي تمتد عبر مضيق جبل طارق.. وبالفعل، تم ضخ كمية من الطاقة من الشبكة المغربية إلى شبكة الأندلس، مما ساعد على إعادة التيار إلى عدة مدن خلال وقت قياسي.

يكتسب هذا الحدث دلالات رمزية عميقة بالنظر إلى العلاقة التاريخية بين المغرب والأندلس، فالأندلس لم تكن مجرد أرض حكمها المسلمون لأكثر من ثمانية قرون، بل كانت جسرا حضاريا نقل العلوم والفلسفة والفنون من المشرق العربي إلى أوروبا، وكان للمغرب دور محوري ورئيسي في هذه الحركة الثقافية.

عندما يعيد المغرب اليوم الكهرباء إلى هذه الرقعة الجغرافية، فإن ذلك يرمز إلى إعادة النور إلى أرض كان لها ذات يوم دور محوري في إشعاع الحضارة الإسلامية والإنسانية.

عبر التاريخ، كان المغرب يشكل العمق الاستراتيجي للأندلس، وعندما بدأت حملات الاسترداد المسيحية، كان ملوك الطوائف في الأندلس يلجؤون إلى المغرب لطلب النجدة، كما فعل المعتمد بن عباد عندما استعان بيوسف بن تاشفين لصد الجيوش القشتالية في معركة الزلاقة سنة 1086م، والتي شكلت منعطفا مهما في تاريخ الأندلس.

وفي القرن الثالث عشر، تكررت هذه العلاقة عندما لجأ عدد كبير من الأندلسيين إلى المغرب بعد سقوط غرناطة عام 1492، ولا تزال المدن المغربية مثل تطوان وفاس وشفشاون.. الخ، تحتفظ بملامح الأندلسيين في طابعها المعماري والموسيقي وحتى اللغوي.

وفي هذا السياق تجمع الدراسات التاريخية والأكاديمية الإسبانية “ان المغرب لم يكن فقط ملجأ جغرافيا للأندلسيين، بل شكل امتدادا روحيا وثقافيا لحضارة اندثرت في الشمال لكنها بقيت حية في الجنوب”.

المبادرة المغربية لا تنفصل عن ديناميكية جديدة في العلاقات الدولية، حيث تلعب “الدبلوماسية الناعمة” دورا متزايد الأهمية، فبدلا من السجالات السياسية التقليدية، تلجأ الدول اليوم إلى أدوات التعاون العملي والتضامن في أوقات الأزمات كوسيلة لإعادة بناء الثقة وتعزيز المصالح المشتركة.

وبهذا المعنى، فإن الدعم المغربي يمكن اعتباره خطوة ذكية تعزز الحضور المغربي في ملف الطاقة الأورومتوسطي، وتفتح المجال لتعاون أوسع في قضايا مثل الهيدروجين الأخضر، الطاقات المتجددة، والأمن الطاقي.

ومن جهة أخرى، حملت المبادرة المغربية بعدا إنسانيا لا يمكن إنكاره، ففي وقت كانت فيه آلاف العائلات الإسبانية تعاني من العتمة، جاءت يد العون من جارٍ جنوبي طالما وضع في موقع “المحتاج”، ليصبح هو المزود والمساعد.

وقد أعرب رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز عن امتنانه قائلاً في تصريح صحفي: “نحن ممتنون جدًا لهذا الدعم السريع من المغرب. إنها لحظة تُظهر فيها الروابط بين البلدين قوتها وعمقها، ونتطلع إلى تعزيز هذا التعاون مستقبلا”.

إن مساعدة المغرب لإسبانيا في إعادة الكهرباء إلى إقليم الأندلس هي أكثر من مجرد دعم تقني، إنها فعل رمزي يعكس عمق العلاقات التاريخية والثقافية التي تجمع الشعبين، وهي تذكير بأن الجغرافيا والتاريخ يفرضان على دول الجنوب والشمال أن يتعاونوا، لا أن يتنازعوا.

لقد أعاد المغرب النور إلى الأندلس، لكن الأهم أنه أعاد إلى الأذهان قيمة الجوار، ومعنى التعاون، وروح التاريخ التي لا تنطفئ.

https://anbaaexpress.ma/ofwps

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى