آراءمجتمع
أخر الأخبار

المجتمعات العربية و التطبيع مع التفاهة

هذا الموضوع  يمس جوهر التحول البنيوي العميق الذي تشهده المجتمعات العربية في العقود الأخيرة، وهو تحول لا يمكن اختزاله في مظاهر سطحية، بل يحتاج إلى تحليل في ضوء مفاهيم فلسفية وسوسيولوجية وسياسية، لفهم كيف انتقلنا من وضع يكون فيه النظام تافهاً عرضياً إلى مرحلة تصبح فيها التفاهة هي النظام ذاته، بآلياته وأدواته ومؤسساته.

في المرحلة الأولى، أي “تفاهة النظام”، كانت الرداءة والفساد والتهميش والتسلط مظاهر مرتبطة أساساً بالنخب الحاكمة التي تسعى إلى البقاء في السلطة مهما كلف الأمر، فكان القمع المباشر والرقابة والولاء هي الأدوات الأساسية لضبط المجتمع.

في هذه المرحلة، كان بإمكانك أن تجد جيوب مقاومة داخل النظام، سواء في الجامعات أو في الصحافة أو حتى في أروقة الثقافة والفكر. كانت لا تزال هناك نخب تحاول أن تقاوم، أن تكتب، أن تفكر. التفاهة هنا كانت مرتبطة بالشكل والأسلوب لا بالبنية، وكان هناك أمل في الإصلاح من الداخل، أو على الأقل في الحفاظ على الحد الأدنى من التمايز بين الجدّ والهزل، بين العاقل والمهرّج، بين المثقف والانتهازي.

لكن مع مرور الزمن، حدث انقلاب صامت. لم تعد التفاهة مجرد نتيجة للفساد أو الاستبداد، بل أصبحت هي القاعدة التي يُبنى عليها كل شيء. هنا بالضبط ننتقل إلى ما أسماه الفيلسوف الكندي “آلان دونو” بـ”نظام التفاهة”، حيث يتبوأ الأشخاص المتوسطون أو الضعفاء فكرياً مواقع القرار، لا لأنهم الأجدر، بل لأنهم لا يُشكلون خطراً على النظام، ولأنهم الأكثر قابلية للتطويع والانخراط في منطق السوق، سواء كانت سوق السياسة أو سوق الإعلام أو سوق الدين.

أخطر ما في نظام التفاهة أنه لا يعمل على أساس الإقصاء المباشر، بل على أساس التطبيع: يتم تعميم الرداءة حتى تصبح المعيار، ويُدجّن المواطن على التكيف معها، ويُربى الناشئة على أن يسخروا من الطموح والعمق والتخصص. تُفكك المعايير، فلا يعود هناك مرجع واضح للحكم على الأشياء. في ظل هذا الضباب، يفقد الناس قدرتهم على التمييز بين الفارغ والمليء، بين الجيد والسيء، بل يُتهم من يحاول رفع السقف أو طرح أسئلة جادة بالتعقيد أو بالسلبية.

الإعلام في هذه المرحلة يلعب دوراً محورياً، ليس كسلطة رابعة، بل كسلطة تصنع التفاهة وتعيد تدويرها يومياً. الإعلامي الناجح ليس من يطرح الأسئلة الحقيقية، بل من ينجح في شد انتباه الجمهور عبر الفضائح والإثارة والترندات السطحية. أما منصات التواصل، فقد تحولت إلى مرايا تُضخم التافهين وتُقصي الجادين، لأن خوارزمياتها ببساطة لا تكافئ العمق بل تكافئ الجذب اللحظي والانفعال السريع.

في المقابل، يتحول المثقف الحقيقي إلى “مزعج” في هذا النظام. صوته غير مرغوب فيه لأنه لا ينسجم مع الإيقاع العام، لأنه بطيء في زمن السرعة، تحليلي في زمن الشعارات، نقدي في زمن التبجيل الأعمى. ولذلك يتم تهميشه، لا عبر المنع المباشر، بل عبر عزله داخل فقاعة لا يصل صوته فيها إلى الجماهير.

وإذا أضفنا إلى كل هذا الاختراق الكبير للخطاب الديني، سنفهم كيف أن نظام التفاهة لا يقتصر على السياسة أو الإعلام، بل يغزو جميع مجالات الحياة. حين تتحول المنابر الدينية إلى فضاء للفرجة، وحين يُختزل الدين في وصايا سطحية أو صراعات مذهبية، نفقد البُعد الروحي والقيمي العميق الذي كان يمكن أن يشكل حصانة ضد الرداءة.

إن أخطر ما في نظام التفاهة أنه لا يخلق فقط مجتمعات تافهة، بل يُنتج أفراداً يعتقدون أن التفاهة هي الوضع الطبيعي. لا أحد يشعر أن هناك شيئاً خاطئاً، لأن الجميع مغمورون في بحر من الضجيج والمحتوى السريع، ولأن أدوات النقد والتفكير العميق تم تعطيلها بشكل ممنهج، إما عبر التعليم العقيم، أو عبر الثقافة الاستهلاكية، أو عبر غياب القدوة والمثال.

غير أن هذا الواقع، مهما بدا شاملاً، ليس قدراً. فكل نظام يحمل في داخله بذور نهايته. ونظام التفاهة، بحكم طبيعته، لا يستطيع أن يُنتج مستقبلاً قابلاً للاستمرار. في لحظة ما، سيحتاج الناس إلى المعنى، إلى العمق، إلى المصداقية.

في لحظة ما، سيفشل هذا النظام في تلبية حاجات المجتمع النفسية والمعنوية، وسيبدأ التغيير من جديد، من الهامش، من أولئك الذين احتفظوا بقدرتهم على الرؤية وسط العتمة.

ولعل مهمتنا اليوم ليست فقط في فضح نظام التفاهة، بل في بناء بديل معرفي وأخلاقي قادر على الصمود. نحتاج إلى إعادة الاعتبار للفكر، للتعليم، للثقافة، للجدية، حتى نستطيع أن نعيد تشكيل وعي جماعي جديد، يرفض أن يكون رقماً في معادلة تافهة، ويطمح لأن يكون فاعلاً في صناعة التاريخ لا مجرد متفرج عليه.

https://anbaaexpress.ma/j2qhm

محمد بوفتاس

كاتب صحفي وسيناريست مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى