خضعت بلادنا من الأطلنطي حتى الهند للهيمنة الأجنبية ثلاث مرات. الخضوع الأول كان للهيمنة الأوروبية في القرن التاسع عشر. الخضوع الثاني كان للهيمنة الأمريكية في القرن العشرين.
أما الخضوع الثالث فهو للهيمنة الصهيونية في القرن الحادي والعشرين. إذا كان الخضوع يعني انكسار الإرادة، فهو من الناحية العملية يعني سقوط الهمة وسيادة العجز وعدم القدرة على فعل حاسم في مواجهة الخطر، لكن ذلك كان لحظة مؤقتة بين مقاومتين: المقاومة التي واجهت فعل الهيمنة، لكنها انكسرت نظراً لضعفها مقارنةً بقوة العدوان، ثم المقاومة التي أعقبت تمكن الهيمنة من رقاب البلاد ومصائر الشعوب.
حتى النصف الأخير من القرن الثامن عشر، لم تكن شعوبُنا تتخيل أن في العالم من هو أقوى منها، ولم تكن تتخيل أن تصحو يوماً ما على أوروبا تجتاحها من البحر والبر، كانت بلادنا من الأطلنطي حتى الهند تتوزعها وتتقاسمها ثلاث إمبراطوريات عظمى بمعايير ذلك الزمان: الإمبراطورية المغولية في شبه القارة الهندية، والإمبراطورية الفارسية
في الهضبة الإيرانية، والإمبراطورية العثمانية في الأناضول والبلقان وشرق المتوسط وبين النهرين وحوض النيل والحجاز والبحر الأحمر والمحيط الهندي وشمال إفريقيا. كانت الإمبراطوريات الثلاث تتداعى لأسباب موضوعية، منها سوء الإدارة في الداخل، ومنها يقظة أوروبا في الخارج، وكانت الإمبراطورية الصينية ينطبق عليها ما ينطبق على الإمبراطوريات الإسلامية الثلاثة من غفلة وجمود وتخلف، ومع وهم القوة والاغترار بالذات الحضارية.
عند منتصف القرن الخامس عشر وحتى منتصف القرن السادس عشر، كان العثمانيون القوة الأولى في العالم القديم، لكن كانت قد وصلت إلى ذروة التوسع والتشبع، أو ما يسميه المؤرخ الأمريكي بول كيندي التخمة الاستراتيجية، وذلك في كتابه الشهير “القوى العظمى”، أرعب العثمانيون أوروبا حين حاصروا، ثم فتحوا القسطنطينية 1453، ولم يكن ثمة ما يمنعهم من فتح روما نفسها، لكن في الوقت ذاته كانت أوروبا تخرج من ليلها الطويل..
وفي 1492 أخرجت الإسلام من غرناطة آخر معاقله في جنوب غرب أوروبا، بعد أن شاد حضارة زاهرة سادت سبعة قرون دون انقطاع، وفي العام ذاته 1492، وهذه من مفارقات التاريخ العجيبة كانت أوروبا تكتشف الأمريكتين لتقلب موازين القوة العالمية رأساً على عقب، ثم المفارقة العجيبة الأخرى، أنه بعد ست سنوات فقط 1498 تكتشف أوروبا طريق رأس الرجاء الصالح؛ لتبدأ رحلتها التاريخية في تطويق الكوكب الأرضي، بما أوتيت من عنف جبار وجشع عنيد، وطمع لا حدود له، يساعدها روح الانقلاب المتجدد على كل قديم وروح السعي الدائب عن كل جديد، فتغيرت، ثم تطورت، ثم تفوقت أفكارها وعلومها وآدابها وفلسفاتها ونظمها وصناعاتها وتجارتها وأساطيلها على كل من سواها، فطافت بالبحار، وجابت القارات تستعمر وتقتل وتنهب وتسرق وتراكم الثروات وتنزحها إلى القارة، حتى باتت أوروبا في الخمسمائة عام الأخيرة جنات على الأرض، رغم ما خاضت بين شعوبها من حروب وبين طوائفها من عداوة وبين دولها من صراعات.
توالت علينا أعنف حملات البرتغال، ثم الإسبان، ثم الهولنديين، ثم أعقبتهم القوتان الأخطر، قوتان من هوامش أوروبا، روسيا من الهامش الشرقي، وبريطانيا من الهامش الغربي، وبدأ الصراع بين الجبارين العنيفين في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، على من يغزو ثم يمتلك ثم يستعمر ثم يحكم بلادنا، وفي إطار هذا الصراع وُضعت أسس هذا الشرق الأوسط الحديث، المنبت عن ماضيه، المُستَلب من ذاته، المُستَلحق بالغرب، حددت بريطانيا فريستها في شبه القارة الهندية، وكانت تعلم أن الإمبراطورية الإسلامية المغولية في طور اضمحلال، وأن هزيمة أطلالها ليست مهمة عسيرة، وكانت بريطانيا تخشى أن تزاحمها روسيا في الهند، لهذا سعت بريطانيا إلى السيطرة على كل ما يضمن سلامة مواصلاتها إلى الهند، ثم بقائها الآمن فيه. وكانت روسيا قد حددت أهدافها في آسيا الوسطى وأملاك العثمانيين في البلقان. ثم تنازعت كلتاهما على أفغانستان وإيران، وهذا التنازع له البصمة الكبرى في تشكيل كل من إيران وأفغانستان حتى اليوم والغد.
حتى ذلك الوقت- النصف الثاني من القرن الثامن عشر- كان العثمانيون لا يزالون الأقوى والأكثر مناعة بين إمبراطوريات الشرق- الصين، مغول الهند، فارس- في مواجهة الخطرين المتصارعين الروسي- البريطاني، لكن الهزيمة المذلة للعثمانيين 1774 أمام الروس بعد خمسة أعوام من الحروب المتصلة، أسفرت عن معنيين كبيرين:
روسيا قوى عظمى صاعدة، لا شك في ذلك، العثمانية قوة عظمى آفلة أفولاً أكيداً، لا شك في ذلك، ومن ذلك التاريخ مرضت مرض الموت الأكيد آخر قلاع الشرق الحصينة في مواجهة الأطماع الأوروبية، ومن ذاك التاريخ إلى يومنا هذا، لا يقف أمام توحش الغرب ثم أمريكا أي قوة لها قدرة على الرد والصد والردع.
المؤرخ التركي محمد فؤاد كوبريللي في كتابه “تاريخ الأدب التركي” وجهة نظره أن الانحدار العثماني بدأ مبكراً جداً، بدأ من لحظة وصول التفوق العثماني نقطة الذروة، من عهد أعظم سلاطينها وأقوى رجل في العالم في القرن السادس عشر الميلادي، وهو السلطان سليمان الأول أو القانوني أو العظيم 1495 – 1566، فبعد مماته بسنوات قليلة 1571 في عهد نجله وخليفته سليم الثاني، تلقت القوة البحرية العثمانية هزيمة منكرة أمام تحالف أوروبا الكاثوليكية، وبعد مائة عام 1683 تأكد استمرار الضعف التدريجي بفشل الحصار الثاني للعاصمة النمساوية فيينا..
ثم بعد ما يقرب من مائة عام ثانية 1774 تأكد بالهزيمة أمام روسيا، أن العثمانية تحولت من فتوة ترعب أوروبا بكاملها لتكون رجل أوروبا المريض، تلعب التوازنات الأوروبية لتأجيل وفاته، حتى لا يقع فريسة في قبضة الدب الروسي المتوحش، في هذين القرنين من 1571 حتى 1774، حدث الفارق الضخم بين أوروبا والإسلام سواء العثماني أو الفارسي أو المغولي، كما بين أوروبا والصين، فتمكنت أوروبا من اجتياح الجميع ونهب الجميع وإذلال الجميع.
المغول كانت إمبراطوريتهم تتمزق من تلقاء نفسها، الصينيون كانوا يعتقدون أنهم أعظم من في العالم، وليس في هذا العالم من يستحق مجرد النظر إليه، قرروا الاكتفاء بعظمة حضارتهم ثم الاكتفاء بما عندهم ثم الانكفاء على أنفسهم مع غير قليل من الزهو وتمجيد الذات، كانوا يرفضون التجارة مع غيرهم، كانوا ينظرون لطلبات أوروبا من أجل تبادل التمثيل الدبلوماسي باحتقار وازدراء، ثم أفاقوا على المدافع البريطانية، تدك سواحلهم بلا رحمة، القذائف البريطانية حطمت أسوار العزلة الصينية، كما كسرت أنف الغرور الوهمي، وأخرجت الإمبراطورية العتيدة من عصر الإقطاع إلى العصر الحديث رغماً عنها وكرهاً منها.
شيء من هذا الذي حدث من الإنجليز مع الصين حصل مثله من الفرنسيين مع مصر، حيث كان مماليك مصر لا يتخيلون أن العالم فيه من هو أشد منهم فروسية ورجولةً وبأساً وقوة، كانوا على يقين أنهم قادرون على فتك نابليون بونابرت وجنوده في ساعة من نهار، ثم فاجأتهم تصاريف الزمان أن العكس هو الذي حدث، عصف بهم نابليون في لمح البصر، وكانت لحظة زلزالية في وعي المصريين كما في وعي الشرقيين كما في وعي الأمم الإسلامية، وقد أبدع الجبرتي في وصفها حين قال في مطلع المجلد الثالث من تاريخه، وهو يؤرخ لسنة دخول الفرنسيين مصر فيقول: “وهي أول سني الملاحم العظيمة، والحوادث الجسيمة، والوقائع النازلة، والنوازل الهائلة، وتضاعف الشرور، وترادف الأمور، وتوالي المحن، واختلال الزمن، وانعكاس المطبوع، وانقلاب الموضوع، وتتابع الأهوال، واختلاف الأحوال، وفساد التدبير، وحصول التدمير، وعموم الخراب، وتواتر الأسباب، وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون”. انتهى الاقتباس من الجبرتي.
هذا الوصف من الجبرتي كان وما زال يصلح أيضاً لوصف فزع الصينيين من جرأة الإنجليز على قصفهم بالبوارج البحرية 1840، لكن الفارق بيننا وبين الصين، أن الصين خرجت من الصدمة وعادت من جديد قوة شرقية عظمى، تنتصب في شموخ في وجه أمريكا والغرب، تنافسهم في البر والبحر والفضاء علماً وقوة. الصين أخذت من الغرب، وما زالت تأخذ لكن دون أن تهتز ثقتها بتميزها الحضاري، فلم ترغب الصين يوماً أن تكون أوروبية أو قطعة من أوروبا أو تقلد أوروبا تقليد المسوخ. العثمانيون منذ السلطان أحمد الثالث- حكم بين 1703 – 1730- وهم يحاولون تقليد أوروبا، ثلاثة قرون كاملة من عمر الزمن..
ولم ينجحوا في أن يكونوا من أوروبا ولا مثل أوروبا، فقط منطقة عازلة بين أوروبا والخطر الروسي القديم المتجدد، هذا هو أقصى ما يمكن أن تعنيه العثمانية قديماً، ثم تركيا الوطنية حديثاً من أهمية لدى أوروبا. لكن تظل تركيا- عثمانية ثم وطنية- هي القدوة لباقي الشرق الإسلامي في التحديث، رغم الخلاف المذهبي كان شاهات إيران يتبعون خطى إسطنبول في التحديث المنقول عن أوروبا، ورغم النزوع الاستقلالي عند محمد علي باشا، فإنه لم يكن في مشاريعه التحديثية أكثر من مقلد، لما سبقت إليه الدولة العثمانية بقرن من الزمان أو أكثر.
كذلك كانت الأجيال الجديدة من الحكام الذين جاؤوا من صفوف ضباط الجيوش الذين حكموا عدداً من الدول العربية عند منتصف القرن العشرين، كانت قدوتهم هي تركيا الوطنية، وكان نموذجهم المبجل القائد كمال أتاتورك.
تمتاز الصين بأنها كسرت كل قيود الخضوع، تحررت تماماً من سيطرة الغرب، الغرب لا يوحي لها بما تفعل وما لا تفعل مثل تركيا، ولا يملك غض البصر عنها، إذا أراد ثم يكشر لها عن أنيابه، إذا تجاوزت حدود المسموح مثل إيران، ثم يظل العرب حالة خاصة في تاريخ الخضوع والمقاومة، العرب الآن، في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين يعيشون لحظة خضوع طوعي، ذهبوا إليها بكامل وعيهم ومحض إراداتهم دون مبرر منطقي معقول إلا تغير دفة القيادة العربية، بعد أن خرجت مصر من قيادة العرب منذ النصف الثاني من السبعينيات من القرن العشرين، ثم بعد أن خرجت العراق من قيادة العرب بعد غلطتها في غزو الكويت 1990، ثم بعد أن خرجت سوريا من قيادة العرب بعد تورطها في حرب أهلية مدمرة 2011- 2023، ثم بعد أن خرجت السعودية مؤقتاً بغموض مصير عملية انتقال السلطة فيها التي لم تُحسم بعد..
ثم بعد أن اختارت الجزائر وتونس والمغرب ما يشبه الابتعاد المتعمد عن صراعات المشرق العربي، بعد ذلك كله، آلت قوة التأثير العربي إلى مراكز جديدة تماماً بينها توزيع أدوار، حيث قطر والإمارات بدأت كل منهما منذ تسعينيات القرن العشرين يكون لهما أدوار، تعجز عنها دول كبرى ليس فقط في إعادة هندسة العالم العربي، لكن في عموم الشرق الإسلامي كله، يتم ذلك مع صلات وثيقة غير مسبوقة مع أمريكا ثم أوروبا وأخيراً إسرائيل، وقد لعبت كل من قطر والإمارات دوراً استثنائياً في تغطية ربع قرن من العدوان الأمريكي المتواصل على العرب والمسلمين عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حتى حرب الإبادة ضد آخر قلاع المقاومة الفلسطينية 2023- 2025.
نحن الآن في عالم عربي تتنافس على قيادته قطر ولها أتباع وأشياع من قوى الإسلام السياسي، ثم الإمارات ولها أتباع وأشياع من قوى الثورات المضادة سواء السياسية أو الثقافية، كلتا الدولتين لكل منهما مشروع يتقدم إلى الأمام أفقياً ورأسياً في كل أرض عربية في ظل غياب أو تغييب مقصود ومريب من قوى العروبة التقليدية في القاهرة، وبغداد ودمشق والرياض وصنعاء والخرطوم والجزائر والرباط وغيرها.
في ظل القيادة القطرية- الإماراتية للعالم العربي قفزت إسرائيل من دولة تريد السلام مع العرب في مقابل رد أراضيهم إليهم إلى دولة ذات سيطرة في حال استغناء كامل عن أي سلام، يكون له أي مقابل من أي نوع أو يترتب عليه أية التزامات، تضع قيوداً على حركتها المطلقة اليدين والقدمين في الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين عبر الاستيطان المستمر، ثم تهجير من تستطيع منهم ثم إفقادهم أي أمل في أي سلام عادل، يترجم نفسه في دولة فلسطينية، ويؤكد هذا الاتجاه، أنه طوال فصول حرب الإبادة 2023 – 2025، لم يصدر عن أي عاصمة عربية أو إسلامية، ما يشير إلى عكس ذلك، لقد ضمنت القيادة القطرية- الإماراتية للعالم العربي ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي- الصهيوني ضمنت فكرة، أن إسرائيل جاءت لتبقى، هذا تطور جديد، لم يكن أي عربي من قبل ذلك يجرؤ على الإقرار به ضمناً أو صراحةً أو قولاً أو فعلاً، الإجماع العربي- الذي كسرته القيادة القطرية الإماراتية- هو أن اسرائيل مثلها مثل الإمارات الصليبية جاءت لتزول ولو بعد عدة قرون من الزمن.
فكرة الاعتراف بإسرائيل كمكون طبيعي من مكونات الإقليم، لم تكن واردة من قبل، كان السائد أنها كيان غريب على طبيعة الإقليم وثقافته وحضارته ولا مكان لها في مستقبله، هذا المعنى الجديد يدشن لحقبة مختلفة تماماً:
ليس فيها صراع عربي- إسرائيلي كالمعتاد، لكن فيها توافق عربي إسرائيلي، يمهد له الإعلام القطري الإماراتي مع دور فيه قدر كبير من الجرأة، تقوم به الإمارات لترتيب الأمور على الأرض، بما يخلق قوى عربية جديدة سواء رسمية أو أهلية، لا تنظر لإسرائيل بعين الصراع، لكن بعين المصالح المشتركة..
هنا الإمارات تتبنى مفهوم التنمية التي يستفيد منها العرب وإسرائيل، بديلاً عن مفهوم الأيديولوجيا الذي طالما كانت سبباً في التفريق بينهم إلى حدود العداوة التي أفضت وتفضي إلى الحروب، الإمارات تفصل الواقع عن جذوره، وتنزع من الصراع منطقه وتبدأ التاريخ من نقطة وهمية لا وجود لها أصلاً: نقطة أن اسرائيل قوة خير مضافة للإقليم، وليست قوة عدوان متواصل على مدار الساعة، الإمارات إذ تنزع التاريخ والذاكرة والجذور والحيثيات وتقف عالقة في الفراغ والعدم والخواء لديها حالة من الإنكار، بل والجسارة إذ تدعي أن من لا يوافقونها على قفزها في المجهول هم أناس عالقون في الماضي، عالقون في الماضي هذه تصدق على إسرائيل وعلى الفكرة الصهيونية بالأساس.
فكرة تجميع يهود العالم بعد ألفي عام من الشتات لتكون لهم دولة على أرض فلسطين العربية، العالقون في الماضي هم الصهاينة، أما عرب فلسطين ومعهم كل عربي شريف، فيعلمون أن فلسطين- قبل الصهيونية- كان بها خمسة آلاف يهودي يعيشون في سلام مع ستمائة ألف عربي، الصهيونية العالقة في الماضي هي من جاءت بيهود روسيا وأوكرانيا وأوروبا الشرقية ووسط أوروبا والبلقان ليستولوا على أراض ليست لهم، ووطن يعيش فيه غيرهم، ما تفعله دولة الإمارات ليس مجرد علاقة سلام بينها وبين إسرائيل مثل ما سبقها من معاهدات سلام، لكن ما تفعله هو مصالحة تاريخية مع الصهيونية ذاتها، مع حق اليهود المزعوم في أرض فلسطين، مع حق دولة إسرائيل في البقاء كمكون طبيعي من مكونات الإقليم، ثم مع إعادة حرث التربة العربية، بما يضمن أن تنبت ثم تكبر ثم تزهر ثم تثمر فيها الأفكار الصهيونية،..
وهذا هو الخطر الأكبر؛ لأن إسرائيل ثقافة الإقليم لا تتقبلها، وهي تعلم أن الحكام الذين يعقدون معها اتفاقات سلام مثلهم مثل شعوبهم، لا يحملون لها مودة في أعماقهم ومثل شعوبهم، يرونها كياناً مصطنعاً غريباً في المنطقة، إسرائيل تعلم أن كافة الشعوب على ما بينهم من خلافات يتحدون ضدها لا فرق بين تركي وكردي وفارسي وعربي وأمازيغي وإفريقي، إذ يظل الإسلام مانعاً أخلاقياً دون قبول الخضوع ودون قبول الظلم ودون قبول سيطرة المعتدي، هذا تراث روحي ضمني مبثوث في التكوين الثقافي والوجداني لعموم شعوب الشرق الأوسط، ولا يقلل من أهميته لجوء الحكومات الى اتفاقات سلام مع إسرائيل.
إذا كان الدور القطري يثير الشكوك، فإن الدور الإماراتي يثير غضب كافة الشعوب العربية دون استثناء، لم يحدث من قبل أن توحد الرأي العام العربي، مثلما يتوحد ضد سياسات دولة الإمارات ودورها الإقليمي وتبنيها للمصالحة التاريخية، ليس فقط مع دولة إسرائيل، لكن مع مشروعة الطموحات الصهيونية، لا سيما أن الصهيونية تعتبر نفسها خلاصة العبقرية اليهودية التي صمدت في الشتات ألفي عام، والتي انتصرت على كل ما مورس عليها من اضطهاد من كافة شعوب أوروبا المسيحية، والتي أثبتت نبوغاً لا ينافس اليهود فيه أحد في العلوم والآداب والفلسفة، ثم في المال وصناعة الثروات، ثم الدبلوماسية، ثم في الإعلام، ثم الانتصار النهائي على إمبراطوريات كبرى في أوروبا من روما حتى واشنطن، في كل هذا التاريخ، وفي كل هذه البلدان والشعوب والإمبراطوريات، كان اضطهاد اليهود هو الأصل، ورغم ذلك صمدوا وبقوا وانتصروا وسادوا وباد أعداؤهم، بل هم الآن يتم تبجيلهم في العالم كله، ولا يجرؤ رجل سياسة مهما كانت سطوته على نقدهم علناً وتأسيساً على هذا الاستنتاج تعتقد الصهيونية، أنه لا جديد في أن العرب يكرهونها، أو أن المسلمين يلفظونها أو أنها كيان غريب على الإقليم، لا جديد في هذا، عاش اليهود في ظروف أسوأ من ذلك وخرجوا منتصرين، ولم تكن لهم دولة، ولم يكن لهم جيش، ولم تكن لهم مثل هذه السيطرة على القرار السياسي والإعلامي في أقوى عواصم العالم، وفق هذا المنطق ترى إسرائيل، أن المستقبل في هذا الإقليم لها، وأن السيادة سوف تكون بين يديها، ربما قبل أن تكمل مائة عام من تأسيسها أي عام 2048.
……………………………
السؤال: هل الخضوع للصهيونية قدر حتمي مقدور أم أن المقاومة لا تزال ممكنة؟
هذا موضوع مقالنا المقبل بمشيئة الله.