تشبه نائبة المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط، مورغان أورتاغوس، الموفد الأميركية الحالية إلى لبنان كثير من الدبلوماسيين الأميركيين الذين عملوا في أو مع لبنان خلال العقود الأخيرة لجهة “تلبنن” مشاعرهم حيال البلد حتى عندما تركوا مناصبهم. صار الواحد منهم لبنانيا أكثر من اللبنانيين صقورياً في الدفاع عن أرز البلد وسيادة ترابه وانتقاد “أعدائه”. بدا في واشنطن أن خوض تجربة لبنان لأولئك يوفّر بطاقة عبور نحو المناصب العليا في الولايات المتحدة والمنظمات الدولية.
يُسجل للدبلوماسية الأميركية الشابة أنها تعبّر عن عاطفة مفرطة تجاه لبنان تجاوزت من سبقوها مثل دايفيد ساترفيلد أو آموس هوكشتاين أو ديفيد شينكر.
قالت إنها تؤمن بلبنان واللبنانيين. راحت توزّع صكوك الشجاعة على رؤساء البلد وعلامات حسن السلوك على هذا وذاك من دون أن تواري عدم رضاها عمن لا يهواها ولا تهواه. تحدثت عن أضرار المخدرات في مواقف الرئيس السابق للحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط، وعن إحساسها بالنعاس تعليقا على كلام أمين عام الحزب، الشيخ نعيم قاسم.
بدت أورتاغوس تجلس من واشنطن داخل الزواريب اللبنانية. متصيدة للمواقف المحلية. متنبهة لها وتقف لها بالمرصاد. متبرّمة من “تعقّل” قادة البلد في التعامل مع مسألة سلاح الحزب. تحاضر مورغان في علوم الإقدام والبأس وتحرّضه على اتخاذ “القرارات الصعبة” التي تصفها بالدواء المرّ للمرور نحو لبنان جديد. وحين تُسأل عن احتمال أن تؤدي المقاربات الصدامية إلى حرب أهلية تستبعد ذلك أو تقلل من أمره أو حتى تعتبره من الأعراض الجانبية لأي علاج.
لا يحبها جنبلاط ووصفها بـ “الأميركي البشع” وله في ذلك أسباب وحيثيات. غير أن الدبلوماسية الحسناء الجميلة تطلّ على البلد من شرفة القوي الواثق التي توفّرها الترامبية في التعامل مع ملفات الدنيا. والخشية أن سعيّ موفدة إدارة الرئيس الأميركي يخلو بزهو من أية ذاكرة سوداء خبرها اللبنانيون في السياسات التي اعتمدتها إدارات واشنطن مع بلدهم خلال العقود الأخيرة.
اعتمد اللبنانيون بثقة وصدق على خطاب أميركي داعم لسيادتهم وحريتهم. تناسوا عن قصد أن واشنطن “باعتهم” في لعبة مصالح خبيثة حين غضّت الطرف عن “اجتياح” بلدهم من قبل إسرائيل المرة تلو المرة، وباركت تسليم البلد إلى وصاية سورية سطت على بلدهم 30 عاماً. خرجوا في 14 آذار 2005 خروجا مليونيا أدهش واشنطن نفسها مطالبين بانسحاب الوصاية من بلدهم. حينها قال الحزب وجماعات النظام السوري السابق حينها أن “عملاء أميركا” هم وراء الحدث الجلل.
عملت آلة الاغتيال على التخلّص ممن وصفوهم بالعملاء. وحين اتّخذت حكومة فؤاد السنيورة قرارات اعتبرت سيادية عام 2008 اتهمهم الحزب بالعمالة لأميركا واجتاحوا البلد في “غزوة 7 أيار” الشهيرة وأطلقوا على الإثم اسم “اليوم المجيد”. وقف اللبنانيون يتأملون الولايات المتحدة، مستطلعين ردّ فعل حاضن، متفحصين وجوه دبلوماسييها المتيمين بلبنان. لكن “لا حياة لمن تنادي”. حملت واشنطن خطابات الحسم والحزم والعزم وأدارت ظهرها متأملة بسكون خواتيم الأمر في الدوحة.
تعيد أورتاغوس إنعاش أمل اللبنانيين بإطلالة أميركية جادة على بلدهم. غير أن البلد ليس أولوية داخل اهتمامات واشنطن الاستراتيجية. ولئن تطل واشنطن على قضاياه بين فترة وأخرى فذلك من بوابة أمن إسرائيل ومصالحها. ثم ما الضمانات التي تقدمها حاليا لدعم لبنان والعهد الجديد لتحقيق ما وعد به من حصر السلاح في يد الدولة وحدها. وما الذي يؤكد أن واشنطن لن تدير ظهرها مرة أخرى إذا ما تغيّرت الظروف وتبدّلت المصالح وبات للعبة الأمم قوانين وقواعد أخرى.
في لبنان من يذكر أن قوات المارينز بشحمها ولحمها استقرت في لبنان للإشراف على انسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية من البلد عام 1982، وحين فجّرت “أذرع” إيران مقرّ تلك القوات والسفارة الأميركية في بيروت عام 1983، قالت واشنطن، وكانت حينها تحت إدارة الرئيس الجمهوري القوي رونالد ريغن: “ننسحب فورا”. قال اللبنانيون: “هربوا”.
يتزامن توقيت فتاوى الدبلوماسية الأميركية الحسناء مع ورشة المفاوضات الجارية بين واشنطن وطهران في مسقط وغيرها. سرّبت دوائر الإدارة خطابا متخبّطا بشأن العزم على مناقشة ملف البرنامج النووي مرة من أجل ضبطه ومرة من خلال تفكيكه ومرات من خلال ضربه واجتثاثه. قالت تلك الدوائر إن النقاش سيطال البرنامج الصاروخي كما سلوك طهران المزعزع للاستقرار أي علاقتها بفصائل “المحور” بما في ذلك الحزب في لبنان. قالت طهران “لا”، وبدأنا نسمع لدى قيادات واشنطن كلاما عن تسوية واتفاق قريب من أجل علاقات ودودة موعودة بتريليونات من الاستثمارات الأميركية في إيران. سقط الكلام عن الصواريخ والروابط الميليشياوية وقد يعود.
قبل أن استقل طائرة باتجاه واشنطن قبل أسابيع من انتخاب ترامب عام 2016 للولاية الأولى، استوقفني تحقيق جرى هاتفيا بين موظفة في مطار لندن ومراجع الأمن في واشنطن. وحين أجبت أني من مواليد بيروت سأل الطرف الأميركي من واشنطن: “أين تقع بيروت؟”، وحين أجبته سأل مرة أخرى كيف تهجي كلمة لبنان.”!. في وزارة الخارجية في واشنطن سألت لاحقا دبلوماسيا رفيعا، كان آنذاك بمستوى منصب أورتاغوس، عن موقف واشنطن من الشغور الرئاسي (آنذاك) في لبنان كاد يقول “لا نهتم”.
يخاف لبنان الصغير الذي لم يسمع به ضابط الأمن في واشنطن أن يكون مرة أخرى تفصيلا سهل التضحية به على مذبح المصالح الكبرى. سبق أن “باعت” واشنطن لبنان لدمشق ثم “باعته” حين حلّت به وصاية طهران و “باعته” حين باغته مسلسل الاغتيالات وحرب “اليوم المجيد”.
ولئن تنفخ أورتاغوس أبواق الإقدام والشجاعة فإن في الذاكرة ما يبرر تمسّك رؤساء لبنان بالعقل والتعقّل والروية لإدارة أزماته لكي “لا يُلدغ المؤمن من الجحر مرتين” ولا يصدّق غيرة الدبلوماسية الحسناء على لبنان.