لم يكن سهلاً عليه أن يقتحم كل العقبات التي واجهته في الحياة. عاش في أسرة فقرها جد مدقع، أب يزاول مهنة البناء، وأم ربة بيت، وله إخوة كثر. أنهى تعليمه الأولي مبكرًا، وخرج للعمل وهو ابن الرابعة عشرة من عمره.
ساعد والده في العمل، ولم يكن مرتاحًا في عمله، وغير راضٍ عن الدريهمات التي كان يجنيها منه. واشتغل في مهنة الصباغة، مما سببت له حساسية نتج عنها مرض الربو، فوجد مهنة ثالثة في فرن، وبقي يشتغل فيها لمدة سنوات، ولكنه لم يكن راضيًا عن وضعه، وهو يرى أسرته على ذلك الحال: إخوة محتاجون لمصاريف تساعدهم على إتمام دراستهم، وأب يجد ويجتهد بكل ما أوتي من قوة لسد مصاريف حياة أسرة محتاجة، وأم اضطرها وضع أسرتها للخروج للعمل مساعدة في البيوت.
كل هذا جعله يفكر في وضع حد لحياته، فلم يكن يسعفه هذا التفكير في تنفيذ ما يريد، لإيمانه بالله، وخوفه من مصيره في الآخرة، وخوفه مما سيسبّبه فعله لأسرته من بعد.
ذات يوم، التقى بصديق الطفولة وهو عائد من ديار الغربة لقضاء عطلة الصيف، وتحدثا طويلًا، واقترح عليه أن يقوم بمثل ما قام به، أن يهاجر لإيطاليا عبر قوارب تقوم بذلك بشكل غير قانوني مقابل مبالغ مالية، الشيء الذي لم يكن يتوفر عليه. فاقترح عليه الاشتغال مع صديق له في مقهى توجد قرب شاطئ البحر، افتتحها منذ شهر. فوافق على مقترحيه، واشتغل بجد لمدة سنة وفرّ فيها المبلغ المطلوب، ولم يُخبر أحدًا بما كان يريد فعله.
ولما جاء اليوم الذي رتّب له صديقه مع السيد الذي يقوم بمهمة “الحريگ”، سلّم المبلغ المالي في المكان الذي اتفق عليه، فسافر، فوجد في استقباله صديقه الذي وفّر له عملًا في مصنع لصناعة الجلود، ومسكنًا مع مهاجرين عرب، واشتغل بجد، واضعًا هدفًا واحدًا، وهو مساعدة أسرته والانتقال بها لوضع مريح.
وشاءت الأقدار أن يلتقي في يوم من الأيام مع بنت صاحب المعمل، فتبادلا أطراف الحديث، فأُعجبت به وبجديته، وبكثرة حديث والدها عنه وعن خصاله. فوقع بينهما حب، وأخبرت والدها بكل التفاصيل، فوافق، رغم أنه كانت له نظرة سيئة عن بعض الشباب من العالم العربي الذين كانوا يقومون بأعمال مشينة.
فتزوّجا، وأنجبا طفلين، ذكر وأنثى، وعاشا سعيدين. ومرة، اقترحت عليه أن تطلب من والدها منحهما محلًا للكراء مقابل مبلغ شهري، يُنجزان عليه مشروعًا لبيع الجلود بعد حياكتها وبيعها لأصحاب المصانع التي تقوم بالخياطة وتنتج ملابس جلدية منها. فنجحا معًا في مشروعهما، واشتريا منزلًا قريبًا من محلهما، وقررا معًا زيارة بلده وأسرته، وكانت فرحة الذهاب معه لا توصف.
فاستقبلتها أسرته، وفرحوا بمقدمهما، وأُعجبوا بأخلاقها وتواضعها، وفرح الأب والأم بحفيديهما، كما فرح إخوته بولدي شقيقهم.
وكانت المفاجأة هي منح والده مفاتيح دار من طابقين، قام بتجهيزهما بأفرشة وأجهزة كهربائية وإلكترونية، وأسفل الطابقين محلين تجاريين، أحدهما لبيع المواد الغذائية كُلّف به والده، والثاني محل لإصلاح السيارات كُلّف به أخ حاصل على دبلوم في الميكانيك.
وكانت فرحة أسرته لا توصف. وفي تلك اللحظات السعيدة، حضر صديقه الذي ساعده، فكانت فرحته أكبر، وهو يشاهد إنجازات صديقه، الذي جعلها مفاجأة له ولأسرته.