محمد بوفتاس
شهد الفكر السلفي، بمختلف تجلياته، حضورًا قويًا في المجتمعات الإسلامية على مدار القرون الماضية، حيث مثّل مرجعية دينية واجتماعية وسياسية للعديد من الحركات والتيارات الإسلامية. ورغم قدرته على الصمود في وجه التحولات الزمنية، إلا أن العصر الحديث حمل معه تحديات كبرى وضعت هذا الفكر أمام أسئلة صعبة تهدد استمراريته بالشكل التقليدي الذي عُرف به.
لقد أدت المتغيرات العالمية، سواء الفكرية أو الاجتماعية أو التكنولوجية، إلى زعزعة البنية الصلبة التي تأسس عليها هذا التيار، مما جعله يواجه صراعًا وجوديًا حقيقيًا.
يُعتبر الفكر السلفي امتدادًا لمقاربة تقليدية تهدف إلى العودة إلى منابع الإسلام الأولى، حيث يُركّز على محورية النصوص الدينية كما فُهمت في العصور الأولى من الإسلام، مع رفض واسع لأي تأويلات قد تتعارض مع التفسيرات السائدة عند السلف الصالح.
لكن هذا الطرح، الذي كان ناجعًا في فترات زمنية معينة، بات عاجزًا في مواجهة الأسئلة المتزايدة للعصر الحديث، والذي يقوم على مفاهيم التعددية والانفتاح والتطور المستمر في العلوم الطبيعية والاجتماعية. فكيف يمكن لفكر جامد، يرفض التأويل الحديث للنصوص، أن يتفاعل مع عالم ديناميكي متغير؟
إحدى أبرز الإشكالات التي تعرّض لها الفكر السلفي هي التحدي العلمي والتكنولوجي. فالعالم اليوم يشهد انفجارًا معرفيًا غير مسبوق، حيث تتغير النظريات العلمية وتتطور التقنيات بسرعة فائقة.
وهذا يفرض على أي منظومة فكرية القدرة على التجديد والتكيف، وهو ما يتعارض مع الجمود الذي يفرضه الفكر السلفي. كما أن ازدياد المعرفة بعلوم الاجتماع والنفس والتاريخ كشف عن تعقيدات في فهم الإنسان والمجتمعات، وهو ما يناقض الكثير من الأحكام الفقهية السلفية التي بُنيت في سياقات تاريخية مختلفة تمامًا عن واقعنا الحالي.
إلى جانب التحدي العلمي، هناك تحدي القيم الإنسانية وحقوق الإنسان. فالعالم الحديث، رغم تنوع ثقافاته، يتجه بشكل متزايد نحو قيم مشتركة مثل الديمقراطية، المساواة، وحرية التفكير والاعتقاد. وهذه القيم تتعارض مع بعض الرؤى السلفية التي تُقصي الآخر المختلف أو تفرض أنماطًا حياتية متشددة لا تتناسب مع متطلبات الإنسان المعاصر.
وهنا يبرز التناقض الواضح بين الفكر السلفي الذي يسعى إلى إعادة إنتاج نموذج اجتماعي تاريخي، وبين واقع المجتمعات التي تطورت على أسس جديدة لا يمكن تجاهلها.
كما أن العولمة لعبت دورًا حاسمًا في تفكيك الحدود الفكرية التي كانت تحمي التيارات السلفية من التأثر بالأفكار المختلفة.
فقد أصبح من المستحيل اليوم احتكار المعلومة أو التحكم في منابع المعرفة، مما جعل الأجيال الجديدة أكثر قدرة على الاطلاع والنقد والمقارنة بين الأفكار المختلفة. وهذا أثر بشكل كبير على قوة الخطاب السلفي الذي كان يعتمد في الماضي على عزلة فكرية نسبية تتيح له فرض هيمنته على أتباعه.
أما على المستوى السياسي، فقد أدى ارتباط الفكر السلفي ببعض الأنظمة والجماعات المتشددة إلى تآكل شرعيته في نظر كثير من المسلمين.
فالتجارب السياسية التي تبنّت الفكر السلفي، سواء في الحكم أو في المعارضة، غالبًا ما انتهت إلى إخفاقات كارثية زادت من عزلة هذا التيار وأضعفت جاذبيته.
فقد أثبتت هذه التجارب أن التعامل مع الدولة الحديثة ومؤسساتها لا يمكن أن يتم من خلال أنماط التفكير التقليدية التي ترفض التعددية والمشاركة السياسية الحقيقية.
ومع كل هذه التحديات، يمكن القول إن الفكر السلفي بشكله التقليدي يقترب من نهايته، ليس بالضرورة من حيث وجوده كليًا، ولكن من حيث قدرته على فرض رؤيته على الواقع. فالأفكار التي لا تتكيف مع متغيرات العصر محكوم عليها بالاضمحلال، حتى وإن بقيت رمزية أو مؤثرة على نطاق ضيق.
وهذا يفتح الباب أمام ضرورة التفكير في بدائل أكثر انفتاحًا، تتماشى مع احتياجات العصر، دون التفريط في القيم الدينية الجوهرية التي تمثل عمق الهوية الإسلامية.
* كاتب صحفي وسيناريست مغربي