منذ انفجار حرب “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول 2023، وعلى الرغم من فلسطينية الحدث وجسامة كارثته، بدت السلطة الفلسطينية طرفا هامشيا في المداولات التي تجري لإنهاء الحرب وتدبير ما بعدها.
تجري المفاوضات مع حركة “حماس” وتتولى الأمر القاهرة والدوحة وواشنطن، من دون أن تكون الشرعية الفلسطينية طرفا مباشرا في تقرير ما يفترض أنه مصير فلسطيني بامتياز. ومن تأمّل خطاب الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، أمام القمّة العربية الأخيرة في الرياض، أمكن له ملاحظة هذا التوق لإستعادة الموقع والدور الذي بدا أن “المقاطعة” في رام تفقده.
في عهد إدارة الرئيس جو بايدن السابقة في واشنطن، تعاملت واشنطن مع السلطة الفلسطينية كـ “مناسبة”، وليس كعنوان شرعي، في السعيّ لصرف الأنظار عن هول المقتلة في غزّة ودعم الولايات المتحدة لإسرائيل بارتكابها.
في كل مرة كان يلتقي فيها وزير الخارجية الأميركي آنذاك، أنتوني بلينكن، أو أي شخصية دبلوماسية أميركية أخرى مع الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، جرى الترويج لدعم “حلّ الدولتين” بصفته اكتشافا أميركيا موعودا لإنهاء الحرب، من دون أن تقدم واشنطن أي جديد جديّ وعمليّ، ومن دون أن تغيّر أي جملة في سرديتها للصراع عامة وجذور الانفجار الراهن في غزّة.
استخدمت واشنطن لازمة واحدة أعيد اعتمادها من قبل عواصم دولية أخرى تحثّ السلطة على إصلاح نفسها وترشيق هياكلها كضرورة لتأهيلها من أجل أن تتسلّم “يوما ما”، أي بعد نهاية الحرب، مقاليد الأمور في غزّة. حّكيّ عن ضرورة تعيين نائب للرئيس عباس، بما يذكّر بمطالب دولية في عهد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في هذا الاتجاه.
ورغم جدية الهواجس الفلسطينية من غياب آلية قانونية تنظّم عملية انتقال سلسة للسلطة في حال غياب الرئيس لسبب ما، فإن عملية استحداث هذا المنصب تعطّلت وتعثرت، وبدا أن في الأمر قطبة مخفيّة لا يفهم تعقّدها إلا العارفين بأسرار البيت الفلسطيني الداخلي.
جرى القفز على هذه المسألة من خلال الذهاب، واستجابة لمطالب العواصم، إلى تشكيل حكومة برئاسة محمد مصطفى تكون بديلا لحكومة محمد اشتية.
انتقل المنصب بين المحمّدين، لكن أجواء خرجت من واشنطن لا تعتبر هذا التطوّر، وإن رحبت به الدوائر الأميركية، كافيا أو يرقى إلى مستوى ما تتطلع به الإدارة هناك. وفيما كان العالم مذهولا بهول الكارثة التي ترتكب في قطاع غزّة “على الهواء مباشرة”، بدا التطوّر في رام الله شكليا مقارنة بجسارة الحدث ومركزيته في الحسابات الأميركية في القطاع.
لم تستطع السلطة الفلسطينية أن تقدم تصوّرا ناجعا لـ “اليوم التالي” بعد الحرب. فقدت السلطة نفوذها على القطاع منذ أن سيطرت حركة “حماس” على غزّة عام 2007 إثر ما تسميه حركة فتح “انقلابا”، وما تعتبره حركة حماس انقلابا على انقلاب السلطة على الانتخابات التشريعية عام 2006.
وإذا ما فشلت كافة محاولات المصالحة والوحدة مذاك، فإن سيناريوهات، لم تفندها واشنطن في عهد بايدن، أنعشت آمال السلطة بالعودة إلى القطاع كحلّ تقدمه العواصم كبديل حكم في غزّة ما بعد الحرب.
بدا أن الأمور لا تذهب هذا المذهب. إسرائيل ترفض حكم حماس والسلطة معاً.الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يَعِد باستيلاء الولايات المتحدة على القطاع وتهجير سكانه إلى مصر والأردن ودول أخرى.
الخطّة المصرية، التي باتت عربية ولا تجدها واشنطن بالمستوى المنتظر، تقترح إدارة لغزّة من قبل كفاءات مستقلة عن “حماس” والسلطة وإن وضعت للآلية تخريجة رعاية السلطة لها. وفيما كانت خطّة العرب تُطبخ في الاجتماع “الأخوي” المصغّر في الرياض في 21 شباط الماضي، بحضور قادة من السعودية ومصر والأردن والإمارات وقطر والبحرين والكويت، غابت السلطة الفلسطينية عن مداولات ما يُقرر ويُدبر.
سعى الرئيس عباس في قمّة القاهرة، الثلاثاء الماضي، إلى الإعلان عن مواقف وقرارات، أرادها أن تكون لافتة، من شانها إعادة حصان السلطة الفلسطينية إلى موقع قيادة أي عربة تعنى بشؤون فلسطين.
رحب بالبعد العربي والإسلامي والدولي لما يُعد من خطط لإعادة الإعمار في غزّة، لكنه شدد على أن السلطة يجب أن تكون المشرفة على ذلك، ما يعكس قلقاً من محاولات تجاوزها دولياً. راح يبشّر بتسوية سياسية، من خلال مؤتمر دولي للسلام، تكون السلطة جزءا منها ضاربا موعدا لذلك المؤتمر العتيد في هذا الصدد في حزيران المقبل.
كثّف عباس من وعود تتعلق بالمصالحة الوطنية، على قاعدة منظمة التحرير ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني، وتُجدد الاستعداد لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية في محاولة للإيحاء برغبة في تجديد الشرعية الفلسطينية وترشيقها.
ذهب إلى الإعلان أمام المجموعة العربية الواسعة عن قرار لاستحداث منصب نائب لرئيس منظمة التحرير، بما فُهم أنه تلبية لضغوط عواصم قريبة وبعيده في هذا الصدد. لكنه وأمام العرب أيضا أعلن عن شروعه في ورشة مصالحة داخل “حزب السلطة”، حركة فتح، تعيد كافة المفصولين من الحركة إلى صفوفها.
والمشهد يوحي أن إعادة فلسطين إلى الحضن العربي مقرِّرا في شؤونها بات حاجة داهمة وجب على الفلسطينيين أنفسهم التمسّك بها.
فشل النظام السياسي الفلسطيني، منذ “الانقسام” في التخلّص من مأزقه البيتي، بحيث بات التفتّت قدرا نهائيا.
لكن الحاضنة العربية ما زالت تحتاج إلى عنوان شرعي فلسطيني يمثّل امتدادا للتاريخ السياسي الفلسطيني الحديث، وليس قطيعة معه.
تمسّك العرب بالسلطة والمنظمة الفلسطينيتين كهيئات تمثيل لفلسطين، وبات على العقل الفلسطيني أن يدرّك أن التحوّلات كبرى في العالم والمنطقة بات تتطلب مقاربة من “خارج الصندوق” تعالج الانسداد والتبلّد، وتفتح منافذ خلّاقة ترقى إلى مستوى اللحظة التاريخية الراهنة.