سؤال طالما طرق أبواب عقلي، وخوالج نفسي لماذا أصبح الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي من أكثر المفكرين والسياسيين الماركسيين إثارة للإعجاب في النصف الثاني من القرن العشرين؟
صراحة هذا السؤال وجدته في كتاب رسائل أو دفاتر السجن أو شجرة القنفذ والرسائل الجديدة ترجمها عن الإيطالية وقدم لها الشاعر السوري أمارجي الصادرة عن دار التكوين -دمشق سوريا 2016 فهذا الأخير مؤلف ممتاز يتضمن رسائل كتبها غرامشي بنفسه لولديه وزوجته وأقربائه خلال فترة اعتقاله من قبل النظام الفاشي في إيطاليا والتي امتدت لعقد من الزمن..
والكتاب يضم إلى جانب الرسائل، سيرة مُفصّلة عن حياة غرامشي وعمله السياسي وتفاصيل اعتقاله بأمر من موسوليني، بالإضافة إلى مجموعة من الصور وقصيدة مهداة له كتبها بيير باولو بازوليني. تختلف هذه الرسائل في أطوالها وموضوعاتها، وتتوزع على فترات زمنية مختلفة من مرحلة اعتقال غرامشي.
وأدى نشر رسائل السجن بعد وفاته إلى تحويله إلى أحد المفكرين الماركسيين الرئيسيين في القرن العشرين، الذين أثرت أعمالهم على جميع العلوم الاجتماعية تقريبًا، بما في ذلك الاستيلاء عليها جزئيًا من قبل بعض التيارات التي لا تدعي أنها ماركسية.
هذا الاهتمام يوقظه في المقام الأول شخصيته والظروف المصاحبة له في تشكيل فكره وفلسفته وأيضا حساسيته وذكائه والقوة الهائلة التي أظهرها منذ الطفولة في مواجهة عيوبه الجسدية (أو كما سماه موسوليني أحدب سيردينيا) وفي مواجهته للشدائد بشكل عام باختصار، إنسانيته كل هذا يتجلى في كتاباته وأسلوبه الفكري.
جزء كبير من الكتابات التي سبقت السجن هي مقالات في الجرائد، دفاتر السجن عبارة عن مسودات تهدف إلى العودة إلى المشكلات الكبيرة مرارًا وتكرارًا وفي مسار تتبع الرسائل تقلباته النفسية العزلة في السجن وتفاقم مرضه والأزمة العاطفية التي سببتها علاقته بالأشخاص الذين يحبهم أكثر من غيرهم.
ويعكس المسار الفكري والسياسي لغرامشي لحظة فاصلة ما بين الحربين العالميتين: صعود اليمين المتطرف، واندماج أكبر بين الجماهير والسياسة والمثقفين في الحياة العامة وفي هذا الإطار يقوم بتحليله الخاص الدقيق للمجتمع والدولة في الغرب كطبيب جراح يعرف مكامن الداء، لقد فهم غراميشي مثل غيره من القلة ،عمق الفاشية وهزيمة الثورة في أوروبا في السنوات الأخيرة، ظهرت عليه بوادر الانقسام الضميري وخوف مبرر على مستقبل المشروع السياسي الذي ظل مخلصًا له حتى النهاية تنظيراته الفكرية تتم في ظروف محفوفة بالمخاطر ليس مرضه بل تشاؤميته التي انطلقت من التوترات المتقطعة بين البروليتاريا والاستراتيجية اللينينية، وتقدير معلميه الليبراليين والولاء للاشتراكية الماركسية في فكر غرامشي بين الإلهام الناشئ عن التنوير والانحياز الاستبدادي للحركة الشيوعية العالمية.
يمثل عمله آخر محاولة لإعادة صياغة الماركسية كفكر عملي محاولة أصلية، مخترقة، غامضة، وفاشلة في نهاية المطاف.
بعد وفاته، تضاعفت معرفة صدقه الفكري ووضوحه واستقامته الأخلاقية ومع ذلك، فإن الكثير من الإعجاب سيصبح عقبة أمام اكتشاف فكر وفلسفة غراميشي لسوء الحظ تم تفسير فكره بشكل معكوس ومن بين العديد من القراءات، لا يزال بُعده الحقيقي ملوثًا فقد سادت محاولة استغلال السلطة الأخلاقية لحياته، لتلائم أفكارهم واستخراج ما هو غير موجود من أعماله الفكرية وتنظيراته الفلسفية.
دفاتر السجن -السياقات:
السياق الذي يكتب فيه أنطونيو غرامشي وملاحظاته المتناثرة خلف القضبان إستثنائية للغاية على الرغم من اعتقاله في 8 نوفمبر 1926 من قبل شرطة النظام الفاشي، حيث بدأ رحلة مؤلمة عبر مختلف السجون في إيطاليا، إلا أنه لم يتم السماح له حتى فبراير 1929 بوضع قلم وورقة في زنزانته هذا يعني أنه حرم لمدة ثلاث سنوات تقريبًا من القدرة على كتابة أفكاره باستثناء الرسائل المرسلة إلى أحبائه والتي، بالمناسبة ، كانت تحت سيطرة الرقابة الفاشية وهكذا في 9 فبراير 1929، بعد يوم واحد من بدء الكتابة في دفاتر ملاحظاته أعرب في رسالة إلى أخت زوجته الروسية تانيا شوخت: “هل تعلمين؟ أنا أكتب بالفعل في الزنزانة. في الوقت الحالي، لا أقوم إلا بالترجمات من أجل إرخاء يدي، في هذه الأثناء أضع أفكاري بالترتيب”.
الرسائل موجهة قبل كل شيء إلى أقاربه وزوجته وأولاده – ديليو وجوليانو، الذين لم يرهم مرة أخرى – بالكاد يستطيع غرامشي الكتابة إلى أتباعه نظرًا لأسباب سجنه، فضلاً عن حظر الحزب الشيوعي من قبل نظام موسوليني ومن السمات الفريدة لجزء بارز من هذه النصوص (خاصة المراسلات) أن كتابتها مشروطة جزئياً منذ البداية بحقيقة أن مؤلفها يعرف أنها ستقرأ من قبل رقيب السجن وسلطات النظام الفاشي.
وهو يعلم أيضًا أن الرسائل المختلفة الموجهة إلى زوجته أو أخت أخته ستتم إعادة قراءتها من قبل أحد أفراد الأسرة بما في ذلك العديد من أعضاء الحزب ومع ذلك، فهذه حالة يجب أن يمر بها دائمًا السجناء السياسيون في أي نظام.
خلال تلك السنوات المأساوية التي لم يتمكن فيها سابقًا من الكتابة في زنزانته، تمكن مع ذلك من التعبير عن مخاوفه الفكرية والعاطفية في العديد من الرسائل.
في إحداها، كتب في سجن ميلانو في مارس 1927 أوضح فيها هوسه الفلسفي والسياسي: كتابة شيء ما يمكن أن يستمر مع مرور الوقت؛ الذي يتجاوز الظرف الفوري.
ويؤكد في فقرة أخرى من رسائله „حياتي تمر دائمًا بنفس الرتابة. حتى الدراسة أصعب بكثير مما تبدو عليه. لقد تلقيت بعض الكتب وأقرأ كثيرًا – أكثر من مجلد واحد في اليوم، بالإضافة إلى الصحف – لكن هذا ليس ما أعنيه. إنه شيء آخر: أنا مهووس” أفترض أن هذه ظاهرة خاصة بالسجناء
هذه التفاصيل الهامشية التي عبر غراميشي عنها في مذكراته بالسجن تبدأ بوصف 15″موضوعًا رئيسيًا” وكانت مدخلا لدراسة:
1 نظرية التاريخ والتأريخ،
2 تطور البرجوازية الإيطالية حتى عام 1870،
3 تكوين مجموعات فكرية إيطالية التطور والمواقف،
4 الأدب الشعبي وأسباب استمرارها،
5 هيجل وفن الكوميديا الإلهية،
6 أصول العمل الكاثوليكي وتطوره في إيطاليا وأوروبا،
7 مفهوم الفولكلور،
8 تجربة الحياة في السجن،
9 قضية الجنوب ومسألة الجزر
10ملاحظات على السكان الإيطاليين: تكوينهم و دور الهجرة،
11 النزعة الأمريكية والفردية،
12 مسألة اللغة في إيطاليا،
13 “الفطرة السليمة،”
14 النظرية والنقدية والتاريخية،
15 النحويون واللغويون الجدد،
رسائل غراميشي إلى والدته:
في رسالة كتبها إلى أمه بداية اعتقاله يقول:
“أمي الحبيبة. فكرت فيك كثيرا هذه الأيام. فكرت في الحزن الجديد الذي سببته لك، وأنت في مثل هذا العمر وبعد كل الأحزان التي عشتِها. يجب أن تكوني قوية مثلي، رغم كل شيء، فلتسامحيني بحنان حبك الهائل وطيبتك.
عندما سأدرك قوتك وجلدك في الأوجاع ستصبح لديَّ ذريعة لقوة زائدة. فكري في هذا… أنا هادئ ومستيقظ، كنت قد أعددت نفسي ذهنيا، وبشكل جيد.
سأحاول أن أتخطى الصعاب التي تنتظرني جسديا أيضا، لأحافظ على توازني. أنت تعرفين مزاجي وبداخلي دائما شيء من الفكاهة والمرح، وهذا سيساعدني على العيش.
هذه الرسالة هي بمثابة صرخة ألم لما يكابده غراميشي في وحشة السجن وغربته إلا أن التفكير في ألم الأم وحزنها وقلقها على فلذة كبدها هو أشد وقعا على غراميشي من قسوة السجن إنها من الرسائل التي لها دلالة عميقة لدور والدة غراميشي في إعطائه جرعات الأمل والسكينة والهدوء لتخطي كروب الحياة والتغلب على الصعاب.
رسائل غرامشي إلى زوجة أطفاله عازفة الكمان الروسية:
في إحدى فقرات رسائله الموجهة إلى زوجته يولكا”… أود لو أراك مع الطفلين في صورة جماعية واحدة، كما في العام الفائت، ذلك أنه في الصورة الجماعية ثم شيء من الحركة، من الدراماتيكية، ثم علاقات يمكن أن تستمر ردحا من الزمن، علاقات متخيلة في مشاهد لطيفة، في مشاهد حياتية واقعية…
من جهة أخرى أعتقد أنني عرفتك بما يكفي لكي أتخيل مشاهد أخرى، غير أنني عاجز بعض الشيء عن تخيل أفعال وردود أفعال الطفلين في علاقتهما معك.
وعليه، فأنا أشعر بالحسد لأنني محروم من الالتذاذ بالطراوة الأولى لتلك الانطباعات عن حياة الطفلين ومن مساعدتك في إرشادهما وتثقيفهما.
علاقة غراميشي بزوجته جوليا علاقة تطبعها الكثير من الشغف والحب لقد كانت رفيقة دربه التي كانت بمثابة الوسادة التي يحط عليها غراميشي رأسه ليفضي لها بمكنوناته الفكرية والنفسية هي كانت بمثابة الجسر النوراني لأطفاله والذي حرم من مشاهدتها.
إن الحديث عن علاقة غراميشي بزوجته يولكا تحتاج إلى مقال آخر لأن غراميشي توفي كأيقونة للثورة والحب أو بصيغة أخرى شهيد الحب فكانت يولكا هي عقده الذي يزين قلبه أنها مثل إحدى نوتات عزف الكمان.
وفي إحدى الرسائل لزوجته، يعلن بأنه صحافي حر وبأنه يرفض أن يبيع قلمه ومبادئه كما يرفض أي تصورات نمطية تبنى على الأعراق والألوان ولكن الأجمل ما يعبر عنه ضمن تصوره الفلسفي المتفائل بأن سجنه بكل ما يحمله من مكابدة ومعاناة لمن حوله، فإنه لا يراه سوى فصل من فصول النضال السياسي.
ختاما لابد لي من الإشارة إلى أن دراسة بعضا من رسائل غرامشي تتطلب جهدا جهيدا في استخراج بعضا من مكنوناتها وتمثلاتها الإنسانية، خاصة وأن رسائله تعتبر نافذة لمعرفة فلسفته واسقاطاتها على هوامش التاريخ والسياسة والثقافة، خاصة وأن هذه الرسائل البالغ عددها نحو خمسمائة رسالة كتب تحت وطأة الاعتقال والسجن فكانت رسائله أساسا لتعزيز أدب السجون والتي انصهرت فيه جميع الأيديولوجيات والأفكار ومن جميع البلدان.