آراءمنوعات
أخر الأخبار

زرياب.. “سيد الأناقة في الأندلس”

وأشاع زرياب في الأندلس كلها روح الظرف وألوان شتى من الترف والتجديد في كل فن ؛ وقد أخذ الأندلسيون عن زرياب فن إعداد الموائد وآدابها, واستعمال الملاعق والسكاكين بدلاً من الأيدي والأصابع

زرياب هو الفنان العراقي الشهير أبو الحسن علي بن نافع المعروف زرياب – ولقب بزرياب لسواد لونه وفصاحة لسانه، تشبيهاً له بطائر أسود – تَلقّى زرياب تعليمه في مدرسة إسحق الموصلي الفنية في العراق، التي تميزت باهتمامها برفع المستوى الثقافي لتلاميذها، فضلاً عن تعليمهم الموسيقى والغناء، فكانوا يتلقون دروساً في مختلف علوم عصرهم كالقرآن، والآداب، والتاريخ.

وبعد قدوم زرياب إلى البلاط الملكي في قُرْطُبَة سنة 207 هـ/ 822م، في عهد الأمير الأموي عبد الرحمن الأوسط، حظي بمكانة متميزة مادياً ومعنوياً واجتماعياً فخصص له الأمير داراً لإقامته، وبعد أن استضافه ثلاثة أيام استدعاه لمقابلته، فاستمع إلى وصلة من غنائه، ثم طارحه الحديث في أحوال الملوك وسير الخلفاء، فوجده عالماً بها، فأعجب الأمير به، وراقه ما أورده وقدّمه على جميع المغنين.

وأجرى الأمير عبد الرحمن على زرياب وأولاده الأربعة الذين دخلوا معه إلى الأندلس رواتب شهرية، فجعل لزرياب مائتي دينار شهرياً، ولكل واحد من أبنائه عشرين ديناراً في الشهر، إضافة إلى ثلاثة آلاف دينار سنوياً لمصروفات الأعياد والمناسبات “لكل عيد ألف دينار، ولكل مهرجان ونوروز خمسمائة دينار.

واعتبر زرياب نفسه – عن جدارة واستحقاق- سيد الأناقة ومصمم الملابس الأَنْدَلُسية الأول، ووضع للأندلسيين نظاماً عرف آنذاك بـ “مراسيم زرياب” لارتداء الأزياء تبعاً لفصول السنة وتقلبات الجو، فرأى أن يلبس الناس الملابس القُطْنية البيضاء وترك الملابس الملونة في فصل الصيف الذي يمتد في الأَنْدَلُس من أواخر حزيران إلى أوائل تشرين الأول، (من 24 يونيو إلى 1 أكتوبر) وأن يلبسوا في فصل الخريف، المحاشي والمروية والثياب المصمتة وما شاكلها من خفائف الثِّياب الملونة ذوات الحشو والبطائن الكثيفة، وينتقلوا في فصل الشتاء عندما يقوى البرد الى أثخن منها من الملونات، ويستظهروا تحتها إذا احتاجوا بصنوف الفراء، ثم ينتقلوا في فصل الربيع إلى لبس جباب الخز والحرير والدراريع الملونة التي لا بطائن لها، وعلّمهم تنظيف الملابس البيضاء مما يعلق بها من وضر (وسخ) بسبب استخدام بعض أنواع الطيب أو غيره، بوساطة تصعيدها بالملح حتى يبيض لونها. وهو نفسه الذي جعل من الجُبّة Jubba زياً مشتركاً للرجال والنساء. وأشار ابن دحية إلى أن زرياب أول من سن في الأَنْدَلُس “التحلي بالحرير والخز المروية وسن لباس البياض في المهرجان الى نصف اكتوبر، وإن كان ممطراً”.

ولبس زرياب كل صنف منه في زمانه الذي يليق به، فإنه رأى أن يكون ابتداء الناس بلبس الأبيض، والملون يوم مهرجان أهل البلد المسمّى عندهم بالعنصرة في ستة من شهر يونيه، فيلبسونه الى أول شهر اكتوبر، ويلبسون بقية السنة الثياب الملونة.

ورأى زرياب أن يلبس الأندلسيون في الفصل الذي بين الحر والبرد (الربيع) من مصبغهم جباب الخز الملحم، والحرر والدراريع التي لا بطائن لها لقربها من لطف ثياب البياض، ثم ينتقلوا الى ذوات الحشو والبطائن الكثيفة، وذلك عند قرس البرد، فإذا ما قوي البرد فينتقلوا الى أثخن منها من الملونات ويستظهرون من تحتها إذا احتاجوا الى صوف الفراء

وكان أهل الأندلس ينسبون إلى زرياب كل جديد يظهر في قرطبة متصلاً بالظرف وبالجمال. من ذلك إنشاء “حمام زرياب” الذي يعتبر اعجوبة قرطبة من حيث البناء الفخم وما يضمه من معمار عجيب.

ومن أثره أيضاً أنه دخل الأندلس وجميع من فيها من رجل وامرأة يرسلون شعرهم مفروقاً وسط الجبين عاماً للصدغين والحاجبين، فلما عاين ذوو التحصيل تحذيقه هو وولده ونساؤه لشعورهم وتقصيرها دون جباههم وتسويتها مع حواجبهم، وتدويرها الى آذانهم، وإسدالها الى أصداغهم، هوت اليه أفئدتهم واستحسنوا ذلك منه.

وبعد أن سادت موضة تصفيف الشعر مفروقا وسط الجبين ومغطيا للصدغين والحاجبين لفترة طويلة، روّج زرياب وأبناؤه الثمانية وابنتاه عُليّة وحمدونة، أسلوبا جديدا يقوم على تصفيف الشعر وتقصيره دون الجباه بشكل يسمح بإبراز الحاجبين والعنق والأذنين.

ولإزالة رائحة العرق، ابتكر زرياب استخدام مادة “المرتك” محل زهر الريحان، والملح لتبييض الثياب وتخليصها من المواد الدسمة.

كما كان ملوك الأندلس يستعملون قبله زهور الورد وزهور الربعان، فكانت ثيابهم لا تسلم من زفر، فدلهم على تصعيدها بالملح وتبييض لونها، فلما جربوها أحمدوه جداً.

وأشاع زرياب في الأندلس كلها روح الظرف وألوان شتى من الترف والتجديد في كل فن ؛ وقد أخذ الأندلسيون عن زرياب فن إعداد الموائد وآدابها, واستعمال الملاعق والسكاكين بدلاً من الأيدي والأصابع.

هذا فضلاً عن أنهم تعلموا منه استخدام السماط, وهو غطاء من الجلد يمد عادة فوق موائد الطعام الخشبية, بدلاً من الكتان لأنه يمكن إزالة الدسم عنه بيسر وسهولة.

أخذ أهل الأندلس عن زرياب استخدام الكئوس الزجاجية الرفيعة, وتخلوا بذلك عن استخدام الأدوات الذهبية والفضية والمعدنية الأخرى. وقد ترتب على ذلك ازدهار صناعة الزجاج في الأندلس. كما تعلم أهل الأندلس من زرياب, الرجال منهم والنساء, طرائق تصفيف شعورهم, فبعد أن كانوا يرسلونه مفروقاً وسط الجبين ومغطياً للصدغين والحاجبين, تعلموا من زرياب وأولاده وبناته تصفيف شعورهم وتقصيرها دون جباههم وإسدالها إلى أصداغهم, بحيث يظهروا الحاجبين والعنق والأذنين.

ونقل أهل الأندلس عن زرياب استخدام مادة (المرتك) للتخلص من رائحة العرق, وذلك بعد أن كانوا يستخدمون زهر الريحان لهذا الغرض. كما تعلموا منه استخدام الملح لتنظيف ثيابهم من الدسم وتبييض لونها.

وبدلا من الأكل باليد والأصابع، أشاع زرياب استعمال الملاعق والسكاكين والكؤوس الزجاجية بدلا من المعدنية الذهبية والفضية وغيرها، وكذلك السّمَاط المصنوع من الأديم والجلد الأملس الناعم على الموائد والطاولات بدلا من سِماط الكَتَّان لسهولة التخلص من البقع الدسمة التي قد تقع عليه.

وعلَّم زرياب أهل الأندلس طقوسا جديدة في الأكل حيث يُبدأ بأطباق الشُّوربة والسَّواخن، تليها أطباقُ اللّحم والطيور المُتَبَّلة بأطيب البهارات، وفي النهاية تُقدَّم أطباق الحلوى من الفطائر المصنوعة من اللوز والجوز والعسل، والعجائن المعقودة بالفواكه المعطرة والمحشوة بالفستق والبندق. وبالإضافة إلى ما ابتدعه شخصيا من الأطعمة فقد رسَّخ فنون الطعام البغدادية التي كانت تتضمن بصمات قوية أعجمية فارسية ورومية.

كما  علمهم وضع المناديل على الطاولات كعادة نقلها زرياب من قصور العباسيين إلى الأندلس وانتقلت منها إلى أوروبا.

لقد شكلت ابتكارات زرياب وإبداعاته – الفنية منها والاجتماعية – محطة حاسمة في تاريخ الحضارة العربية في الأندلس، وهو بذلك يعد بحق  سيد الأناقة في الأندلس.

https://anbaaexpress.ma/6j969

د/ أنور محمود زناتي

أكاديمي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى