على خلفية تداعيات ندوة “العلاقات السودانية المصرية” التي أقيمت بمركز حزب الكرامة بالدقي مؤخراً، وبعد تقديم واجب الشكر والاحترام للقائمين على أمرها فأنا هنا أكتب معترفاً بعدم معرفتي أو علاقتي بالعمل السياسي فأقول بضرورة الانتباه لهذه الكلمة:
السمات العامَّة
أولاً، جمهورية السودان الديمقراطية، دولة ذات سيادة مستقلة.
ثانياً، جمهورية مصر العربية، دولة ذات سيادة مستقلة.
ثالثاً، الأشواق والأمنيات والخواطر التي تتحدث عن وحدة القطرين لا تعدو أن تكون أمنيات عريضة تكمنها نوايا صادقة بلا منازع لكنها في ذات الوقت غير قابلة للتنفيذ لا بحكم الاستحالة فقط لكن بحكم الناموس الفيزيقي الطبيعي الذي يمنع الوحدة القطرية الواحدة بأي شكل كان لا للقطرين فقط بل لكل الكيانات البشرية وبما يعرف حديثاً بمصطلح الدولة الذي نشأ وعرف في القرن الخامس عشر الميلادي تقريباً..
ذلك لأن كل دولة لها خصوصيتها المجتمعية وتركيبتها الفكرية والثقافية والإنسانية وسياساتها الداخلية والخارجية بطبيعة الحال وهي في الحد المتوسط لا تتوافق هذه السياسات العامة بين القطرين لا حكومة ولا شعباً لاعتبارات تزيد عن الخصوصية كثيراً، كثيراً جداً.
رابعاً، العلاقات الأزلية هي علاقات في المقام الأول علاقات إنسانية يجمعها العرف المجتمعي واللغة والدين وبعض السياسات العامة التي تراعي أول ما تراعي الخصوصية لكل قطر ولكل شعب لكن لا يعني ذلك الوحدة القطرية الواحدة باستفتاء أو من غير استفتاء فالحقيقة الواقعية لا تقبل غير الانفراد كلٌ بسيادته الوطنية ومصالح شعبه احتراماً للشعوب وللعقول.
خامساً، يختلف جوهرياً العمل الاستخباراتي والرؤية المستقبلية الاستراتيجية الوطنية والأمن القومي لكل دولة منفردة فيما يخص العلاقات الدولية والمصالح المشتركة وطبيعة دول الجوار الجغرافي المتاخم للدولة المعنية مما يعني وضعية مختلفة تماماً في شكل العلاقة وطبيعة الدولة المجاورة وعلاقتها بتداخل الشعوب سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية في ذاتها وكذلك العمل الدبلوماسي وهذا واضح للغاية بين القطرين المتجاورين.
سادساً، التعدد الحزبي والسياسي والضمير الوطني والحس الانتمائي للدولة، يختلف لا أقول نسبياً لكن إلى حد ما كبير يختلف جوهرياً بين القطرين وذلك لغياب الواعز الوطني بإقامة دستور دائم للسودان وبرنامج وطني استراتيجي بعيد المدى من ناحية..
ومن ناحية أخرى تفوق الواعز الوطني للضمير المصري لا بإقامة دستور دائم لمصر بل بالحس الانتمائي للدولة المصرية لدرجة يعلمها القاصي والداني أاعزو ذلك إلى التركيبة السكانية التي تتفق في الحد الأعلى لمصلحة الدولة المصرية حينما تختلف للحد الأعلى للتركيبة السكانية للدولة السودانية من حيث التعددية الاثنية والقبلية والجهوية وخلافه زيادة على ذلك الشريط القبلي الأفريقي من أقصى شرق قارة أفريقيا إلى أقصى غرب القارة الأفريقية مروراً بالخط العريض للدولة السكانية السودانية فهذا لا يوجد في مصر مماثلاً.
نعم ! التركيبة السكانية المصرية قبلية ومتعددة لكنها متطورة ومتفقة على كيان الدولة ومؤسساتها في الأولوية القصوى من حيث الاهتمام والانتماء والولاء للوطن.
نعم ! السودان وشعبه لا يخلوان من الحس الانتمائي للدولة السودانية لكن يغلب عليه الطابع الشخصي والحزبي والعنصري طغياناً على كيان الدولة ومؤسساتها الرسمية وهنا نقطة فارقة للغاية في نشأة وتطور الدولة السودانية في العصر الحديث.
سابعاً، البنى التحتية، اعزو ذلك لأمرين إثنين:
الأمر الأول، طبيعة الأرض المحجرية للدولة المصرية أسهمت في التطور العمراني والبنية التحتية بهذا المستوى المشاهد والمعروف إذ تعد رابع دولة في العالم من حيث التكوين الكنتوري والقشرة الأرضية بعد إسبانيا والصين وامريكا.
الأمر الثاني حسن إستخدام وتوظيف هذا المورد الطبيعي في أمرين مهمين جداً هما:
1/ الكادر البشري من حيث العمالة والتأهيل المهني والأكاديمي والخطط والبرامج الطموحة لاستغلالها والاستفادة منها لأبعد الحدود.
2/ سياسة الدولة في حسن التوظيف وإعادة التدوير المالي والإداري والاقتصادي للمواطن المصري ما يفوق حد الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي إلى حد الرفاهية والراحة والتصدير وخلافه لعامة الشعب.
نحن في السودان نعاني من ذات النقطة في عدد من المحاور أهمها:
1 / الصراع الاجتماعي والسياسي في التوزيع المجحف للثروة بمختلف أنواعها ودرجاتها.
2 / الصراع السياسي في التوزيع المجحف للسلطة الذي خلق الصراع بين ما يسمى بالهامش والمركز.
3 / الفوضى الإدارية والمالية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عدم توظيف الموارد الطبيعية والبشرية لخلق دولة كبرى لها وجودها الفعلي في الخارطة العالمية.
4 / الصراع الحزبي والقبلي والمناطقي حول استغلال تلك الموارد لخدمة الحزب والجهة بدلاً عن خدمة الدولة وتنميتها.
5/ أسباب أخرى كثيرة يمكن مراجعة كتابي “نظام الحكم في السودان” لمزيد من التفاصيل.
ثامناً، الخدمات تهتم الدولة المصرية بها غاية الاهتمام من ناحية ما يعرف بسياسة الإغراق لعمليتي الإنتاج والصادر في كل الموارد الطبيعية والبشرية بحيث أسهمت في خلق فرص العمل وخلقت مشاريعاً تنموية شاملة حسب التوزيع الديمغرافي ومن ثم استقرار الأوضاع السياسية والأمنية والاقتصادية الذي أدَّى إلى استقرار الخدمات بكل مسمياتها ومستوياتها هذا من ناحية المقارنة بين القطرين المتجاورين.
في السودان العكس تماماً مما خلق فجوة كبيرة للغاية في توفير السلع والخدمات الضرورية وأبرزها: التعليم والصحة والفقر والمأوى، رغم الجهود المبذولة لتحقيق أهداف هذا الثالوث أو قل: المربع المخيف والمهم لكنه بطئ للغاية في حيز التنفيذ مما أدى بطبيعة الحال للصراع المسلح القائم الآن فهي إحدى أذرع الخلاف السياسي والخدمي (صراع الهامش والمركز).
تاسعاً، الحريات وحقوق الإنسان، للدولة المصرية إخفاقات في هذا الملف مقارنة مع بقية المجتمع الدولي المتحضر وفي مقارنة مع الدولة السودانية فنحن في السودان نعاني للغاية من هذا الملف وأبرزه: طبيعة القانون والتكييف المجتمعي الموائم بينه وبين العرف المجتمعي وارساء مفهوم المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات والالتزامات وتحقيق العدالة الاجتماعية الشاملة والكرامة الإنسانية والأخلاقية للمواطن السوداني فهذا الملف معقد للغاية ويحتاج إلى خبراء في القانون والتنمية البشرية ليس ههنا موضع التفصيل.
عاشراً، النظام الدستوري الحاكم في السودان يختلف تماماً عن الدستور المصري من ناحية التفريق بين الثوابت الوطنية والمتغيرات السياسية وفقاً للمتغيرات الدولية والداخلية والمحلية كذلك وفقاً للمتغيرات العلمية والعملية والتطور التكنولوجي العالمي الذي يعود بالخير للشعب المعني.
مثال بسيط: الفرق بين النظام البرلماني والرئاسي الذي يحدده الدستور الدائم للدولة، في حين نحن في السودان نمر بفترة انتقالية حتى يوم القيامة بعد سقوط النظام السابق مسؤول عنها رئيس مجلس السيادة السوداني عن تمديد الوثيقة الدستورية بين قوى الحرية والتغيير التي أدت إلى الحرب القائمة اليوم ليمكث في الحكم حتى وفاته بصاعقة كهربائية أو أي سبب آخر، وبين التقدير الاستخباراتي والرؤية المستقبلية المصرية في فترتها الانتقالية السابقة التي حكم فيها الإخوان المسلمون (الكيزان المصريون) لعام واحد فقط حدث بعدها انتقال السلطة إلى الرئيس الحالي.
نعم ! تختلف التقديرات الاستخباراتية من دولة لأخرى وتتعلق بتدخل المجتمع الدولي في الشؤون الداخلية للدول العربية ومنها مصر والسودان بطبيعة الحال لكن يظل جهاز المخابرات المصرية أقوى بكثير جداً من جهاز المخابرات العامة السودانية لاختلافات تقديرية للمواقف والمتغيرات والمستجدات السياسية بين مصر والسودان.
محاولة المعالجات – باختصار شديد:
1/ العمل المشترك بين البلدين في إطار المصلحة الوطنية العليا للدولة بما يخدم مصلحة الشعبين كل على حده.
2/ عمل تكامل اقتصادي وثقافي واجتماعي وأمني وعسكري وما أشبه لحماية الأمن القومي السوداني والمصري على السواء.
3/ تفعيل البرنامج والخطط المستقبلية والاتفاقات القديمة والجديدة بين القطرين المتجاورين في كل المجالات الحياتية.
4/ إحالة القضايا الخلافية المتعلقة إلى مجلسي الحل والعقد مثل: قضية المياه (سد النهضة واتفاقات مياه النيل: 1929 ، 1953 وما بعدها) وحلايب وشلاتين وترسيم الحدود الجغرافية، وموانئ البحر الأحمر وما إلى ذلك.
5/ توحيد الجهود المبذولة في الإعلام المحلي والعربي لما يخدم مصلحة البلدين دون التصعيد السالب.
6/ العمل للمزيد من التواصل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والأمني وهلم جرا ، بوضع خطة طويلة المدى تعيد النظر في القضايا الإنسانية المشتركة بين القطرين المتجاورين.
7/ أن تظل جمهورية مصر العربية دولة ذات سيادة مستقلة ترعى مصالحها المشتركة بين البلدين وتراعي خصوصيتها في إدارة دولتها بما تراه مناسباً.
8/ أن تظل جمهورية السودان الديمقراطية دولة ذات سيادة مستقلة، ترعى مصالحها الخاصة وتراعي خصوصيتها في علاقتها الدولية خاصةً مع مصر.
9/ أن يتحول مفهوم الوحدة الوطنية السودانية والمصرية قائم على المشاركة الإيجابية في كل النواحي الحياتية بعمل التكامل في الملفات ذات الطابع المشترك لا الوحدة التي تلغي سيادة دولة كاملة على حساب دولة أخرى وشعبها.
10/ أن تحترم كل دولة سيادتها وسياستها وخصوصيتها وتدفع بهما لخدمة الوطن وبناء الدولة الحديثة أو الجمهورية الجديدة.
ملحوظة مهمة أخيرة:
ما قيل عن مصر والسودان يقال عن جمهورية جنوب السودان وشعبه.
نحترم الأشواق والتمنيات من البعض لكن هذا ضد الناموس الطبيعي للوجود.