آراءسياسة
أخر الأخبار

المغرب بعد خطاب 9 مارس 2011: التغييرات الدستورية والسياسية والنجاحات المستدامة

فيصل مرجاني

يعد خطاب 9 مارس 2011 لحظة تأسيسية في التاريخ السياسي المغربي، إذ مثَّل انعطافة حاسمة في مسار التحديث المؤسساتي وبناء الدولة الديمقراطية الحديثة، في ظل ثوابت الأمة وهويتها العريقة. لم يكن هذا الخطاب مجرد إعلان عن إصلاح دستوري، بل كان تجسيدًا لرؤية استراتيجية متقدمة، تؤكد أن المملكة المغربية ليست دولة محكومة بردود الفعل أو خاضعة لإملاءات ظرفية، بل كيان سياسي متجذر، يتحرك وفق منطق الاستمرارية والتجديد، في إطار منظومة سيادية متماسكة قوامها الملكية الدستورية، والديمقراطية التشاركية، والحداثة المتجذرة في الخصوصية المغربية.

لقد حمل هذا الخطاب رسالة واضحة إلى الداخل والخارج بأن المغرب ليس دولة تخشى التحولات، بل يقودها، ليسقط بذلك كل محاولات التشكيك في قدرة الدولة المغربية على تجديد ذاتها في إطار الوحدة والاستقرار.

فمنذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، عرش أسلافه المنعمين، والمغرب يسير بخطى واثقة نحو بناء نموذج ديمقراطي متفرد، يتجاوز الأطر التقليدية للممارسة السياسية في المنطقة، ليؤسس لمنظومة دستورية تنهل من روح العصر دون المساس بجوهر السيادة الوطنية وهندسة الدولة العريقة.

لقد جاء خطاب 9 مارس ليعكس تميز النموذج المغربي في الإصلاح، حيث يتم بشكل مدروس ومسؤول، وفق رؤية تستوعب تعقيدات الواقع وتراعي خصوصية الدولة، بما يحفظ استقرارها ويضمن انخراط المواطنين في عملية التغيير البناء، بعيدًا عن أي اضطرابات قد تعرقل مسار التحديث والتقدم.

فجاء الدستور الجديد ليشكل قفزة نوعية غير مسبوقة، جعلت من التعددية اللغوية والثقافية أحد ركائز الهوية الوطنية، حيث تم تكريس الأمازيغية كلغة رسمية إلى جانب العربية، تأكيدًا على أن المغرب ليس كيانًا أحادي البنية، بل فسيفساء حضارية تمتد جذورها في عمق التاريخ.

كما أرسى هذا الدستور مبدأ فصل السلط، حيث تم توسيع صلاحيات رئيس الحكومة وتعزيز دور البرلمان، بما يضمن توازنًا دقيقًا بين مختلف الفاعلين السياسيين، دون المساس بالدور السيادي للمؤسسة الملكية باعتبارها الضامن لاستمرار الدولة وحامية التوازنات الكبرى.

لقد أثبت المغرب أنه قادر على إبداع نموذج ديمقراطي غير مستنسخ، متحرر من الإملاءات الخارجية ومنطق التقليد الأعمى، نموذج يتأسس على فلسفة الدولة الممتدة عبر العصور، حيث يتم الإصلاح من داخل المؤسسات، وليس عبر تقويضها. وفي الوقت الذي غرقت فيه العديد من الدول في مستنقع الفوضى والصراعات الداخلية، استطاع المغرب أن يعبر المرحلة بوعي سياسي متقدم، يعكس نضج مؤسساته وعمق التحام العرش بالشعب، وهو التحام ليس مجرد علاقة سلطوية، بل عقد اجتماعي متجدد، تتجلى ملامحه في كل منعطف تاريخي تمر به الأمة.

وبعد أكثر من عقد على هذا الخطاب التاريخي، يقف المغرب اليوم كدولة صاعدة، تكرّس نموذجًا تنمويًا متينًا، حيث أصبحت المملكة مركزًا اقتصاديًا وجيواستراتيجيًا لا غنى عنه في القارة الإفريقية والمنطقة الأورو-متوسطية. فمن المشاريع المهيكلة كميناء طنجة المتوسط، إلى التحولات الطاقية الكبرى التي جعلت المغرب رائدًا عالميًا في مجال الطاقات المتجددة، ومن التطورات في البنية التحتية إلى السياسات الاجتماعية المبتكرة كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية وتعميم الحماية الاجتماعية، يبرهن المغرب على أن الحداثة ليست مجرد شعارات سياسية، بل دينامية مستمرة تتجسد في السياسات العمومية والاختيارات الاستراتيجية.

وفي قلب هذه الدينامية، تظل إمارة المؤمنين الركيزة الصلبة التي تضمن التوازن بين الأصالة والحداثة، حيث استطاع المغرب أن يبني نموذجًا فريدًا في التعايش الديني والتعددية الثقافية، نموذجًا يجعل منه منارة للعيش المشترك، بعيدًا عن كل أشكال التطرف أو الانغلاق الهوياتي.

ففي المغرب، لا تُختزل الهوية في بعدٍ واحد، بل هي بناء تراكمي، يستوعب مختلف الروافد التي صنعت الشخصية المغربية، وجعلت منها استثناءً حضاريًا في المنطقة. وليس من قبيل المصادفة أن يحظى المغرب بإشادة دولية واسعة بفضل سياسته الحكيمة في مجال الحريات الدينية، حيث بات نموذجًا عالميًا يُحتذى به في احترام حرية المعتقد وحماية التنوع الديني، ما جعله شريكًا موثوقًا به في المبادرات الدولية الرامية إلى تعزيز قيم التسامح والاعتدال.

وفي موازاة ذلك، حقق المغرب قفزات نوعية على مستوى الدبلوماسية الدولية، حيث استطاع في ظل القيادة الرشيدة لجلالة الملك أن يرسخ مكانته كقوة إقليمية ذات تأثير استراتيجي، محققًا اختراقات دبلوماسية غير مسبوقة، جعلته لاعبًا رئيسيًا في القضايا الإقليمية والدولية الكبرى.

فبفضل نهجه المتوازن واستقلالية قراره السيادي، استطاع المغرب أن يفرض رؤيته في الملفات الحساسة، وعلى رأسها قضية وحدته الترابية، حيث انتقل من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، مُحقِّقًا مكاسب متتالية من خلال الاعترافات الدولية المتزايدة بمغربية الصحراء، والدعم المتنامي لمبادرته للحكم الذاتي باعتبارها الحل الواقعي الوحيد لهذا النزاع المفتعل.

كما عزز المغرب حضوره داخل القارة الإفريقية، مستعيدًا دوره الطبيعي كفاعل رئيسي في تحقيق التنمية والاستقرار بالقارة، فضلاً عن شراكاته المتقدمة مع القوى الدولية الكبرى، التي باتت ترى في المغرب نموذجًا للدولة الصاعدة القادرة على الجمع بين الاستقرار الداخلي والدينامية الدبلوماسية الفاعلة.

إن المملكة المغربية، بقيادة جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، تواصل اليوم مسيرتها التاريخية بثبات، واضعة في صلب رؤيتها المصلحة العليا للوطن والمواطن، مدركة أن التحولات العميقة لا تُبنى بالمزايدات أو بالشعارات الجوفاء، بل بتعزيز المؤسسات، وترسيخ سيادة القانون، والانخراط الواعي في مسار التطور العالمي دون التفريط في الخصوصية الوطنية.

فالمغرب ليس دولة تبحث عن الاعتراف الخارجي، بل كيان سيادي يمارس قراراته وفق إرادته المستقلة، ويؤمن بأن قوته تكمن في استقراره، وأن سر نجاحه يكمن في التوازن الفريد الذي يجمع بين العراقة والتجديد، في ظل شعار خالد يشكل جوهر العقيدة الوطنية: الله، الوطن، الملك.

https://anbaaexpress.ma/px3c5

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى