آراءثقافة
أخر الأخبار

التدوين الموسيقي.. إبداع عربي

(بضاعتنا ردت إلينا)

 أبدعت الحضارة العربية والإسلامية في كافة المجالات، خاصة في العصر الذهبي بعد انطلاق الفتوحات الإسلامية التي كانت عامل التقاء بين الثقافة العربية وثقافات الشعوب الأخرى التي دخلت الإسلام. وبما أن العلم من توابع الاستقرار والحضارة، فبعدما استقرت الدولة العربية الإسلامية ازدهرت بطبيعة الحال العلوم والفنون والآداب والموسيقى.

وقد كان للعرب فضل السبق في وضع قواعد السلم الموسيقي وتحليله ودراسته بفضل جهود الكندي، والفارابي، والأرموي وإخوان الصفا الخ. ولذا في هذه الدراسة سوف نبرز الدور الريادي للعرب في علم التدوين الموسيقي ونبوغ الكثير منهم فيه، حيث سبقوا الغرب في عملية التدوين والسلم الموسيقي بقرون عدة.

ويؤكد المستشرق والمفكر الاسكتلندي الكبير هنري جورج فارمر  Henry George Farmer في مقدمة كتابه حقائق تاريخية عن التأثير الموسيقي العربي: “لولا الاكتشافات والتطورات التي قام بها العلماء العرب خلال ازدهار حضارتهم العلمية في البحوث الثلاثة “الرياضيات والهندسة والفلك” لواجهت هذه العلوم الكثير من البطء والتخلف في تطورها وتقدمها في القارة الأوروبية. وفي ما يخص آخر علوم الرباعية وهي الموسيقية، للأسف لم يقم احد بتحديد دور العرب وعلمائهم فيما لحق بها من تطور”.

التدوين الموسسيقي عند العرب:

لقد عرف العرب المسلمون فن الموسيقى وأبدعوا وصنفوا فيه منذ وقت مبكر من تاريخ دولتهم العربية الإسلامية ومن ضمن ما نبغوا فيه كان التدوين الموسيقي.

ويرجّح سليم الحلو في كتابه: “تاريخ الموسيقى الشرقية” أن “أول من أوجد علم الموسيقى العربية سعيد بن مسجح. وابن محرز المتوفيان عام 79هـ/ 715م. وقد كان لهما عدد كبير من التلاميذ الذين تتلمذوا عليهما في الموسيقى.

ومن أبرز تلاميذهم يونس الكاتب الذي يُعد أول كاتب معروف للموسيقى العربية. وتبعه إسماعيل بن جامع السهمي (ت 192هـ / 808 م) الذي كتب مجموعات كبيرة من الأغاني وكان من كبار المغنين الملحنين، ثم جاء من بعدهم أحمد بن يحي المكي (ت 205هـ/ 820 م) وإسحاق الموصلي (ت 235هـ/ 850 م)”.

ويؤكد بعض الباحثين، ومنهم سعد الله أغا، أن بعض الكتابات العربية القديمة، وبخاصة كتابات الكندي، وصفي الدين البغدادي، وكتاب الأغاني، تتضمن ما يشير إلى أن أسماء السلم العربي كانت أسماء عربية، ومنها ما هو مرقم، ثم تحولت تلك الأسماء إلى فارسية بالتأثير الفارسي، مع بقاء الأصوات كما هي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن السلم الغربي قد أخذ من السلم العربي الشيء الكثير. فالأصوات الأساسية في السلم الغربي سبعة وهي: دو، ري، مي، فا، صول، لا، سي. وتتوسطها أصوات كالتي تتوسط السلم العربي. وقد أثبت هذه الحقيقة كثير ممن كتبوا عن الموسيقى العربية والغربية.

وهناك نظرية تقول بأن أصل حروف السلم الموسيقى (DO-RE-MI-FA-SOL-LA-SI) مشتق من حروف السلم الموسيقى العربي (درر مفصلات / دُ رَر مَ فَ صَ لا تِ. وهذة النظرية قدمها كلا من المؤلف الفرنسي فرانسيسكي مينينسكي Franciszek Meninski في كتابه Thesaurus Linguarum Orientalium عام 1680م وكذلك أيدها بعض الباحثين الموسيقيين اللاحقين مثل: بنيامين دي لابورد Benjamin de LaBorde في كتابه Essai sur la Musique Ancienne et Moderne عام 1780. وكذلك وافق عليها المستشرق هنري جورج فارمر 1965م. ويشير فارمر في كتابه القيم “مصادر الموسيقى العربية” “هناك منهجين في التاريخ العربي الإسلامي في مقاربة المواضيع الموسيقية: منهج له صلة بالمشتغلين في الموسيقى وآخر ذو طابع نظري بحت مرتبط بعلم الرياضيات لأن الموسيقى كانت جزءا من العلوم الرياضية”.

ولعل أول وصف واضح لشيء ملحَّن بالنوتة العربية هو ماجاء في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (ت 356هـ/ 967م). أن إسحاق الموصلي (ت 235هـ/ 850 م) كتب إلى إبراهيم المهدي بجنس صوت صنعه فوصل خبره إلى إبراهيم المهدي فكتب يسأله عنه.

فكتب إليه بشعره وإيقاعه وبسيطه ومجراه، وتجزئته وأقسامه ومخارج نغمه ومواضع مقاطعه ومقادير أدواره وأوزانه فعرفه إبراهيم وغناه كما وضع لحنه إسحاق.

ويعتبر الفيلسوف أبو نصر الفارابي (ت 239هـ/ 853م) أفضل من كتب عن الموسيقى العربية وهو صاحب كتاب الموسيقى الكبير الذي يعد أكمل ما كتبه العرب عن الموسيقى منذ ذلك التاريخ إلى وقتنا هذا”، والفارابي في كتابه الموسيقى الكبير يفتح آفاقاً واسعة لإجراء تركيبات استند فيها إلى أسلوب رياضي يعرف حالياً بالمتوافقات والمتبادلات، في تشكيل مجموعات إيقاعية معقدة استناداً ْإلى خلايا إيقاعية أصغر.

وقد اخترع الفارابي آلاتاً موسيقية وحسن البعض الآخر، وينسب اليه اختراع آلتي الرباب والقانون، وكان الفارابي يسمى في الغرب الفارابيوس وله تأثيراً هائلاً في ثقافة أوروبا في العصور الوسطى وقد سمي الملعلم الثاني –بعد أرسطو- وأكبر فلاسفة المسلمين.

أما الفيلسوف يعقوب بن اسحق الكندي (ت256هـ/ 873م) فكان غزير الإنتاج في التأليف، لم يترك ناحية من نواحي العلم إلا كتب فيها، وقدمت رسائل ومؤلفات الكندي الموسيقية ذخائر معرفية ونظريات موسيقية غير مسبوقة، ومن هذه الأعمال القيمة: كتاب في خبر صناعة التأليف وكتاب “المصوتات الوترية” وكتاب “الرسالة الكبرى في التأليف” وكتاب “في أجزاء خبرية في الموسيقى” وغيرها من مؤلفات بحث فيها علوم ونظريات متقدمة ساهمت في تأطير الممارسة الموسيقية.

من مخطوطة الكندي “في خُبْر تأليف الألحان” وفيها طريقته في تدوين العلامات الموسيقية

ويعتبر الكندي أول من أدخل الموسيقى إلى الثقافة العربية، فأصبحت ضمن المنهج الدراسية العلمية، وجزءاً من الفلسفة الرياضية. وكان هذا بطبيعة الحال نتيجة التأثر بالمدرسة الإغريقية، بما نقله العرب من العلوم اليونانية إلى العربية في مختلف نواحي المعرفة ومنها الموسيقى فصارت كلمة “الموسيقى” باللغة العربية تعني علم الموسيقى بينما كلمة “الغناء” التي كانت تعني قديما أداء الألحان والموسيقى بصورة عامة، أصبحت تطلق على الفن العملي فقط.

ويعطي الكندي وصفا دقيقا للنغمات والتي يقدمها في 7 نغمات (مطلق البم، سبابة البم، وسطى البم أو بنصره، خنصر المثلث وهي أيضا مطلقة المثلث، سبابة المثلث، وسطى المثلث أو بنصره، خنصر المثلث وهي أيضا تعرف بمطلق المثنى).

هذا الشكل خاص بنموذج لمؤلفات الكندي الموسيقية الخاصة بآلة العود وهذا حسب ما تعرض له يوسف زكريا من تحليل وشرح وتحقيق لرسالة الكندي في اللحون والنغم

وقد بزغ فجر موسيقي جديد مع “المدرسة المنهجية في الموسيقى العربية” التي تزعمها العالم الموسيقي “صفي الدين الأرموي البغدادي” (ت 693هـ/ 1294م) الذي قدم إنجازات فكرية ومعرفية غير مسبوقة وتحديداً في مجال النظرية الموسيقية القديمة وتثوير مفرداتها وخاصة الأدوار الموسيقية “المقامات” كما نرى في كتابه القيم “الأدوار في الموسيقى” حيث يؤكد على أن: أهل الصناعة الموسيقية أطلقوا على الأدوار- المقامات- اسم الشدود- جمع شد وهي تسمية تدل على الانتقال من نغمة إلى النظير المشابه الأقرب لها اتفاقاً بالقوة سواء رفعت النغمة إلى طبقة أحد أو خفضت إلى طبقة أثقل ولكل دور أصل يبنى عليه.

ولعل شهرة كتابه الأدوار ترجع على أنه أول كتاب بالعربية يحاول تدوين نغم الألحان بأجناسها وإيقاعاتها، وقد استخدم الحروف الهجائية دالة على النغم ثم قرنها بالأعداد لتدل على الإيقاعات والأوزان، وهذه التجربة تُعتبر من أقدم التجارب لتدوين الموسيقى.

وتجدر الإشارة إلى أن أسلوب صفي الدين في التركيب لا يزال معمولاً به في مقاماتنا الحالية، فمثلاً إن ركبّنا جنس سيكاه على السيكاه مع الحجاز نوا نتج مقام الهزام، بينما لو كان التركيب مع الراست على النوا لحصلنا على مقام السيكاه، ولو كان النهاوند لحصلنا على مقام ماية، ولو كان الصبا، لحصلنا على مقام بستنكار على السيكاه وهكذا.

ومن الجدير بالذكر أن عددًا من الآلات الموسيقية المستخدمة في الموسيقى الأوروبية تأثرت بالآت الموسيقى العربية، فتأثر الكمان بالربابة والجيتار بالقيثارة وبعض الالآت النفخية بالزمر والزرنة.

لقد نقل العرب إلى بلاد الأندلس كل ما سبق معرفته من الآلات الموسيقية مثل العود القديم ذى الأوتار الأربعة.

والعود الكامل ذى الأوتار الخمسة، والشهرور وهو نوع من العود، والنزهة وتشبه القانون وكذلك الرباب، والكمنجة والطنبور والقيثارة والكنارة والقانون والشقرة وهى الحلقة الأولى لآلة البيانو.

وانتشرت فى أوروبا والجنوب منها بصفة خاصة الآلات الموسيقية العربية وأسماؤها تؤكد أنها ذات أصل عربى ومن تلك المفردات: العود lute، الدف  adufe،  النقارة  naker،  الجيتار  guitar، الصنوج  sonagas، الرباب rebec، النفير anafil، الطبل table، القرن horn.

وفي الختام لابد من الإشارة إلى الجهود القيمة التي بذلها العلماء الموسيقيون العرب مثل محمود أحمد الحفني، وزكريا يوسف، ومجدي العقيلي، وعلي الدرويش، وحسين محفوظ. وكذلك جهود المستشرقين الذين أنصفوا العرب ووضعوهم في موقعهم الصحيح من تاريخ الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى من أمثال: هنري جورج فارمر، وديفلوكو الأيطالي، وكديرلانجه الفرنسي وجهودهم التي  كشفت عن الكثير من التراث الموسيقي العربي مما كان يظن قد ضاع في ضباب الزمن، ومن المستحيل الكشف عنه.

https://anbaaexpress.ma/qxekk

د/ أنور محمود زناتي

أكاديمي مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى