التطورات التي تميز العلاقات الدولية تؤكد اليوم توقعاتي واسقاطاتي السابقة. مستوى مقاومة القوة الناعمة والفكرية لضمان استمرار وجودها أصابه الضعف والتراجع بشكل مخيف.
عصر الأنوار، الذي كان وراء مركزة الإنسان في الوجود أرضا في العالم الغربي، سرعان ما تحول إلى امتياز وتفوق استغلته القوى المنتصرة في العالم مكرسة مفهومي الهيمنة والتبعية. توج الشعور بالقوة العسكرية والاقتصادية والعلمية بظهور آفة الحركات الامبريالية التي توافقت على إثر مفاوضات عسيرة على اقتسام خيرات شعوب دول الجنوب. النتائج كانت وخيمة للغاية على الدول المتخلفة أو السائرة في طريق النمو.
اشتدت حدة الفقر وتفاقمت، وانتشرت الأوبئة والأمية، وتسبب الصراع الطبقي في نشوب الثورات في إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبيتين وروسيا القيصرية. تغيرت بالتدريج موازين القوى بفعل نجاح الثورات الشعبية في الصين وروسيا والهند، وباءت بالفشل في المشرق العربي.
عاش العالم الحرب الباردة لمدة تجاوزت عشرة عقود. انتهجت دولة الصين منطق السلمية وتنمية العنصر البشري وتطوير البحث العلمي إلى أن اشتد ساعدها. استمرت على نفس النهج ما بعد هدم جدار برلين وحل الإتحاد السوفياتي وإعلان النظام العالمي الجديد. تراجعت روسيا خطوة إلى الخلف للاستعداد لرفع تحديات المستقبل.
الكل يتذكر زيارة بوريس يلتسين لأمريكا ومقابلته لبيل كلينتون. تم توفير كل الظروف لتلميع نجم فلاديمير بوتين. لمع في هذا الشأن نجم المنظر ألسكندر دوغين فيلسوف القومية الروسية. انخرطت الدولتان، الصين وروسيا، بكل قوة في العولمة بمنطق الزعيم.
انشغالهما لم يكن سوى تفعيل الاستراتيجيات الوطنية الناجعة من أجل الاستفادة من الانفتاح السياسي والاقتصادي العالمي بالحجم الذي يضاهي استفادة الدول القيادية لنظام العولمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية القوية.
تجاوزت النيوليبرالية وضعية الإشباع. استنزفت الطبيعة إلى أن تضررت أسرار وظائفها، فشرعت في الانفعال الغاضب المهدد لحياة الإنسان.
تمكنت روسيا الجديدة والصين الشعبية من مراكمة آليات ومقومات التأثير مجددا على موازين القوى العالمية. وصل ترامب وماكرون إلى السلطة لفترتين انتدابيتين في كل من الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا.
عاش العالم الأوروبي تبعات قرار خروج المملكة البريطانية من الإتحاد الأوروبي تفاعلا مع الأزمات المتتالية التي عرفتها المنظومة النيوليبرالية العالمية وآثارها على أوضاع القارة العجوز. قدم بوتين إشارة قوية للعالم عندما استقبل معلمته في أحد لقاءاته الهامة، ومعانقتها عناقا حارا وتقبيل يدها.
في سياق التطورات العالمية، الكل يتذكر عراق المرحوم صدام حسين، الذي حكم بلاده كقيادي لحزب البعث الموالي للمعسكر الشرقي. علاقاته الدولية زمن الحرب الباردة لم تقيه من السقوط ومن تطبيق حكم الإعدام عليه يوم عيد الأضاحي.
الكل يتذكر كيف تحول، تحت المظلة الأمريكية، إلى أبرز المناوئين للجمهورية الإيرانية، ودخوله في حرب معها دام أكثر من ثمان سنوات. عاش العراق تقلبات في علاقاته الدولية زمن النظام العالمي الجديد. روسيا انشغلت بأوراش تقوية بنية دولتها من جديد.
توالت الأزمات بين العراق وأمريكا، والتي اشتدت بسبب استثناء الدولار كعملة عالمية معيارية لأداء فاتورة بيع البترول العراقي. سقط صدام في فخ ألعوبة غزو الكويت.
لم تكن دولته جاهزة لمقاومة تأثيرات العقوبات الدولية ومآسي عزلها. تمت الإطاحة بنظامه بسرعة وغزو بلاده في أيام معدودات تحت ذريعة شغف الشعب العراقي إلى نظام ديمقراطي وامتلاك دولته لأسلحة الدمار الشامل.
عادت روسيا بوتين إلى الواجهة، بنظام اقتصادي ليبرالي، مدعومة بقوة الصين الشعبية. ترسخ في الأذهان تشكل محور جديد للمقاومة.
تابع المراقبون حنكة ذكاء الدولتين في تعاملهما مع تطورات العولمة. مقاومتهما لسياسة الغرب أصبحت أمرا واقعا تتخلله، من حين لآخر، نتائج ومؤشرات ترجح امتيازاتهما المتراكمة على مستوى موازين القوى في المنطقة المشرقية بشكل خاص، وفي العالم بشكل عام.
تشكل مؤقتا على أساس منطق استراتيجي محور إيران، وسوريا، وكوبا، وحزب الله، وطالبان، والحوثيين، وكوريا الشمالية، فنزويلا.. وحتى العراق يمكن تصنيفه في هذه الخانة. روسيا تلعب دور الواجهة في الصراع الدولي مع الغرب بدعم استراتيجي صيني. تفجرت الأزمة الأوكرانية.
تم التخلي على نظام الأسد في سوريا واغتيال قائد حزب الله حسن نصر الله وعدد من قيادات حركة حماس.
استبيحت أراضي غزة وتم التصريح الأمريكي بتهجير أهاليها. اللقاء السياسي في مارس 2025 بين الصين وروسيا وإيران في شأن حق هذه الأخيرة في تنمية طاقتها النووية لأغراض سلمية شكل إشارة جديدة هامة في العلاقات الدولية في الفترة الانتدابية الثانية للرئيس ترامب.
بشكل متزامن، أعطت الولايات المتحدة الأمريكية الانطباع، تحت ضغط جشع النيوليبراليين، أنها لا تعطي أي قيمة لمسألة التحالفات وللقوة الناعمة التي تم بناؤها بأيادي قيادات القيم الفلسفية الإنسانية والفكرية زمن الأنوار.
تراجع نفوذ فرنسا في إفريقيا بفعل الامتداد الروسي. عبر ترامب في برامجه ومبادراته السياسية أن ما يهمه اليوم هو المال. تخلت أمريكا بوش عن صدام، وغررت به، وأسقطت نظامه، ليأتي الرئيس ترامب في فترة حكمه الأولى ليصرح أمام العالم بأسره أنه يضع نصب عينيه مال المملكة العربية السعودية (شراء الحماية). تم تتويه هذه الأخيرة في مستنقع اليمن، في صراع أريد له أن يعنون بـ”الصراع السني – الشيعي”.
في المقابل، يتابع الرأي العام مدى طول نفس روسيا وصبرها السياسي، والذي عبرت عنهما في استماتتها في مرحلة أولى في الدفاع عن النظام السوري والفنزويلي في إطار مخطط تعاوني وتكتل مشكل من دول المحور السالف الذكر. إنه المحور الذي سمته إسرائيل بمحور الشر المهدد لمصالحها ووجودها.
في المقابل، عكس ما روج له في شأن ترجيح فرضية بداية إضعاف هبة أمريكا في العالم، توالت تدخلات ومفاوضات ترامب مع دول العالم كاشفة نزعة القوة والمصلحة بشكل مفضوح وأمام الشاشات والمنابر الإعلامية.
إشارات فشل خطة بولتون، وزير خارجية أمريكا، في قضايا الصراع الكونية خاصة قضية إيران وفنزويلا وكوريا الشمالية وطالبان، لم تكن سوى مرحلة من مراحل التفوق الأمريكي التاريخي. سقط النظام السوري. تراجع الصدى السياسي لإيران بعد مقتل الزعيم حسن نصر الله.
استبيحت أراضي غزة ولبنان.. بعدما أصيبت المملكة العربية السعودية بالخيبة والخذلان العميقين بعد الهجوم الذي استهدف، بالدقة المتناهية وبدون ضحايا بشرية، عصب صناعتها النفطية في ابقيق واخريص بالصواريخ والطائرات المسيرة، تحولت اليوم إلى وسيط في القضية الأوكرانية. الكل يتذكر الضربة التي ترتبت عنها تصريحات، هنا وهناك، في شأن التفوق التكنولوجي الحربي لروسيا والصين، والذي لحقت به إيران نسبيا.
تم إعلان انبهار أمريكا قبل ذلك من ضرب طائرتها المسيرة على بعد أكثر من 20 كيلومتر عن سطح الأرض من طرف القوات العسكرية الإيرانية.
التفوق البارز في الشرق الأوسط في بداية سنة 2025 أصبح ميزة أمريكية-إسرائيلية. الارتباط القوي للعلاقات الدولية بالتفوق التكنولوجي والعسكري والاقتصادي بأبعاده الثقافية والتوازنات الجيوستراتيجية العالمية الذي تتزعمه الدول القوية أصبح حقيقة واضحة مكشوفة للرأي العام العالمي.
بفعل تطور منطق العلاقات الدولية في مطلع ولاية ترامب الثانية، كل الاسقاطات تتوقع نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي الذي يمكن أن يتجاوز 3 بالمئة خلال عام 2025، واستفادة الأسواق المتقدمة من عودة التضخم إلى المستويات المستهدفة وتحسين الظروف الاقتصادية.
سيعرف اقتصاد الولايات المتحدة دينامية هامة في حين سيواجه اقتصاد منطقة اليورو تحديات كبيرة، بسبب الضغوط التي سيعرفها قطاع التصنيع وارتفاع أسعار الطاقة (حسب تقرير غولدمان ساك).
من المتوقع حسب نفس التقرير أن تواجه الصين عاما صعبا وسط ضعف الاستهلاك المحلي ومشاكل في قطاع العقارات وتزايد حدة المشكلات الهيكلية مثل الديون المتراكمة وتدهور الديمغرافيا والتي ستؤثر على الأداء الاقتصادي.
التطورات الدولية تبين أن إستراتيجيات الأمن القومي الأميركية أصبحت تركز منذ بداية الألفية الثالثة على تقوية الاقتصاد ورفع تحديات التنافسية مع القوى الكبرى.
لقد حددت مصادر القرار الأمريكية الصين كدولة قادرة على تحدي النفوذ الأميركي وإعادة تشكيل النظام الدولي.
كما اعتبرت في نفس الآن منطقة المحيط الهندي-الهادئ بؤرة للصراع على قيادة العالم في القرن الحادي والعشرين.
إلى جانب الأقطاب الثلاث (أمريكا، الصين والهند)، أبرزت الأحداث مساعي روسيا في استعادة مكانتها كقوةً عظمى.
القوة الروسية في الاستراتيجية الأمريكية الكبرى حاضرة بقوة. المساعي لاحتواء الاتحاد السوفياتي وهزم الشيوعية كان وراء اشتداد حدة صراعات الحرب الباردة. أمريكا تعلم علم اليقين أن أوراسيا تمثل الجزء الأكثر أهمية من العالم؛ إذ يعيش فيها أغلب سكان الأرض ويتمركز فيها النشاط الاقتصادي.
من يسيطر على تلك المنطقة بالنسبة لأمريكا ستوفر له موارد كافية لخنق وجودها ونفوذها اقتصاديا ومواجهتها عسكريا. المغامرة العسكرية الأمريكية التي خاضتها واشنطن في كوريا وفيتنام كانت بدافع وعيها بالمخاطر التي يمكن أن تنبعث من آسيا والمنطقة الأوراسية والمحيط الهندي-الهادئ.
فحتى تأسيس “حلف الناتو” كان ناتجا عن نفس الاعتبارات. إنه الانشغال المؤرق الذي دفع أوباما إلى إعطاء الأولوية للتخلي على الحضور الأميركي الوازن في الشرق الأوسط (الانسحاب من العراق وأفغانستان) بهدف تحرير القدرات العسكرية لإعادة نشرها في آسيا والمحيط الهادئ في مواجهة الصين.
أما عهد ترامب، فقد جعل من المصلحة والقوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية شعارا لمرحلة ولايته الثانية.
وأخيرا يمكن القول إن الهدف من إعلان أهمية المال والمصلحة والقوة العسكرية والاقتصادية في استراتيجية ترامب لا تخدم إلا نفس أهداف الولايات المتحدة الأمريكية التاريخية.
التفاوض مع بوتين لحل الأزمة الأكرانية يحمل دلالات سياسية هامة ومحورية. الضغط على الرئيس الأوكراني من أجل تمكين أمريكا من المعادن النفيسة مرتبط لا محالة بخطة استباقية لمنع أي قوة معادية من السيطرة على أي “منطقة حرجة” تمنحها الموارد وحجم السكان والقدرات الصناعية اللازمة لفرض تحدٍّ عالمي جديد في وجه الولايات المتحدة.