إن استراتيجية الصيام لتنظيم الغريزة والحد من لهيبها ولجمها كما تلجم الطاقة النووية بإدخال قضبان (الكادميوم) بين أعمدة اليورانيوم، حتى نمنع انفجاراً نوويا رهيباً ينتظر عنصر اليورانيوم لولا لجم أعمدة الكادميوم له كما فعل الفيزيائي النووي الإيطالي (انريكو فيرمي) لأول مرة مع استحداث أول مفاعل نووي في العالم، يقوم على تنظيم الطاقة النووية التي هي من أعتى طاقات الكون، ويقابلها أعتى طاقات البدن العضوي (الطاقة الجنسية) .
إن قضبان الكادميوم في البدن للجم الطاقة النووية الجنسية هي الصيام من أجل إطفاء الحريق النووي الجنسي بقطع تفاعلاته من خلال تخفيف المواد التي تزيد اشتعاله، فالنظام الغذائي بانقلابه الشامل يقود إلى انقلاب أخلاقي، ولقد انتبه ابن خلدون في مقدمته إلى حقيقة ارتباط المناخ والهواء والغذاء بأثر واضح في تغيير أخلاق الإنسان (1).
وأنا شخصياً لفت نظري تأكيد صغير في حديث صحيح يشير إلى علاقة نوع من الأخلاق بنوعية خاصة من الغذاء (والفخر والخيلاء في أهل الإبل والسكينة والوقار في أهل الغنم)(2).
فتساءلت ما سبب السكينة في أهل الغنم لولا طبيعة الحليب واللبن والزبدة والقشدة واللحم وتأثيرها في التصرفات؟ أي أن التغذي بهذا الحيوان ومشتقاته له دوره في هذا الضرب من الأخلاق، ولكن كيف تفعل هذه المواد فتعطي هنا سكينة؟
في حين أن لحم الإبل يعطي ظاهرة الانتفاخ وحب الظهور! إنني أعتبر أن دراسات من هذا النوع هامة للغاية في علاقة البروتينات والشحوم وتراكيبها الخاصة في تشكيل أخلاقيات معينة، أو على الأقل المساهمة في تشكيل اتجاه خلقي معين.
وبعد العرض التاريخي ومداخلة علم النفس يبقى بين يدي ضوء آخر من القطاع البيولوجي ـ السيسيولوجي في معنى (الفصل) و (الوصل) الجنسي وتنظيم الطاقة الجنسية؛ فالعضوية تفيدنا بمشهد ملفت للنظر لمن القى السمع وهو شهيد، فالأعصاب حينما تمشي في تضاعيف المادة العصبية تفصل عن بعضها بغمد واحد هو غمد (النخاعين) فإذا غادرت الأعصاب منزلها من المادة العصبية، التي تعتبر مفاتيح الكهرباء للبدن، لتمشي بين الأوتار والعضلات أو في تجاويف السن ومغارات العظام؛ فإنها تتغلف مضاعفاً بغمد جديد إضافي هو غمد (شوان).
وهكذا يصبح العصب مفصولاً عما حوله من أعصاب أخرى أو أنسجة مختلفة مغايرة مرتين بدل مرة واحدة، كل هذا حرصاً من العضوية على عدم التعري والتماس إلا في المنطقة المحددة والمسموح بها فقط. ونفس الشيء يفعله مهندسو الكهرباء في تغليف الأسلاك وفصلها عن بعضها، ومن أجل إحداث الأثر الكهربي فلابد من إيجاد وصل منظم ومحمي وفي نقطة بعينها، وهكذا يحصل تنظيم وتسخير الطاقة الكهربائية أو أثر العمل العصبي في النسيج المطلوب.
وقريب من هذا يجب أن يحصل في تنظيم الطاقة الجنسية، وإيجاد جو الحرام؛ الذي هو مكان الاتصال المحرم بالمحارم، وتحديد العلاقات الجنسية، ورفض الشيوعية الجنسية، فالإنسان كائن ثقافي قبل كل شيء، وأن يحصل الاتصال الجنسي في نقطة بعينها وبالكيفية والكمية الملائمتين لآن نفس التيار المار يؤدي إلى حرق الأسلاك فيما لو ارتفع مقدار الفولتاج، وفي نقطة التماس هذه تتولد المودة والرحمة والإنجاب وإلا الخراب والصواعق والدمار!!
في نقطة التماس المنظمة هذه لإسلاك الكهرباء، يولد التيار الكهربائي وينتشر الدفء والحرارة؛ فيضيء المصباح، وتبرِّد الثلاجة، وتغلي السخَّانة الماء، وتعصر الغسالة، وتهرس العصارة، وترفع المصاعد الناس إلى أعلى البنايات، وتنزلهم إلى أسفل الأرض في المناجم، تحرك القطارات، وتطبع المطابع ، وينتشر النور والخير، وتضج الحياة بالحركة والنماء والإيجابيات، وإلا فعطب المصابيح، وانطفاء النور، وتخرب الآلات، واحتراق المحركات، وبوار الصناعات.
وفي نهاية البحث نشير إلى أن هذا القانون يسري أيضاً على نهوض الحضارات وسقوطها فهي تنهض بوثبة الروح التي تلجم الغرائز وتنظمها، وتنهار وتتحلل بسيطرة الغرائز وتمكنها، وبالطبع فإن الغرائز لا تتفلت دفعة واحدة بل بالتدريج وشيئاً فشيئاً، على قدر ارتخاء قبضة الروح عليها، وعندما ينقلب الوضع وتستحكم الغرائز والشهوات في المجتمع، يصل عندها إلى ذروة انحلاله، ويدخل المجتمع ليل التاريخ البهيم (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)(3).
قال المفكر الجزائري مالك بن نبي: (فدورة الحضارة تتم على هذا المنوال، إذ تبدأ حينما تدخل التاريخ فكرة دينية معينة أو عندما يدخل التاريخ مبدأ أخلاقي معين على حد قول (كسرلنج) كما أنها تنتهي حينما تفقد الروح نهائياً الهيمنة التي كانت لها على الغرائز المكبوتة أو المكبوحة الجماح) (4) هذا هو المصير بين انفلات الطاقة وتنظيم الطاقة وكبت الطاقة (فعليه بالصوم فإنه له وجاء)(5).
المراجع:
(1) راجع في هذا الصدد مقدمة ابن خلدون حيث عقد فصلين تحت عنوان (أثر الهواء في أخلاق البشر) ص 86 والثاني (في اختلاف أحوال العمران في الخصب والجوع وما ينشأ عن ذلك من الآثار في أبدان البشر وأخلاقهم)
(2) الحديث (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمان يمان والحكمة يمانية والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة ـ الحديث رقم 6 ـ المجلد الأول ـ ص 10 ـ كتاب زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم
(3) الآية وإذا أردنا ان نهلك قرية ـ سورة الإسراء ـ رقم 16
(4) راجع بحث أثر الفكرة الدينية في تكوين الحضارة ـ كتاب شروط النهضة ـ تأليف مالك بن نبي ـ ص 89 حتى 99
(5) الوِجاء هو الخصاء أي كأن الصوم يقوم بعملية خصي مؤقتة، أي تثبيط بيولوجي لنوازع الغريزة الجنسية وتهذيب لفورانها، وجاء هذا في حديث مشهور (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء) جاء الحديث في كتاب زاد المسلم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم ـ الجزء الرابع ـ ص 262 ـ رقم الحديث 969 .