آراء
أخر الأخبار

رفيق الحريري.. وكأنه الوداع الأخير

لم يكن رفيق الحريري “قصّة نجاح” و”تراجيديا موت” فقط. برز الرجل، وتنامى صيته، ووسع نفوذه، في مفترق تقاطعت داخله مصالح سوريا والسعودية والعرب والشرق والغرب

انتهت الحريرية السياسية يوم اغتيال رفيق الحريري، وكلّ زعم بعد ذلك هو من قبيل النهل من الميراث. لم يخرج تعبير “الحريريّة” إلّا بعد غياب صاحبها.

والأرجح أنّ الرجل كان يريد سوق البلد بعد حربه الأهليّة إلى خلاص، من دون أن يكون في حسابه تأسيس “عقيدة” تحمل اسمه، ويزعم أصحابها أنّها من صنائعه. لم يؤسّس الحريري حزباً سياسيّاً ينحشر داخله أعضاء ومناصرون وكأنّه كان يعتبر اللبنانيين جميعاً حزبه. مات ولم تتجاوز حركته حدود “تيّار” يقف على رأسه. ولم يتحوّل التيّار إلى حزب إلّا بعد غيابه.

قد تكون لرفيق الحريري، كما شأن ساسة التاريخ، أخطاء وربّما خطايا. غير أنّ قاتليه حرّروه من محاكمات التاريخ، وتقدّموا يكشفون عن أبشع وجوههم في ارتكاب الجرائم والآثام. صاحبت شخصيّة الرجل ثقة مفرطة بالنفس واعتزاز بها، وهذه من خصال رجال التاريخ. لكنّه، والأرجح بسبب هذا الفائض، وثق بما هو محرّم في أصول العلاقات الدولية وخصال أولي الحكم وحسابات مصالحهم فلم يصدّق أنّهم سيجرؤون. قيل إنّ تحذيرات من أعلى المراجع الدولية وصلته، لكنّه لم يأنس إلّا لحدسه الذي جعل منه يوماً “مالئ الدنيا وشاغل الناس”.

لا شيء بقيَ من رفيق الحريري إلّا ذكراه في تاريخ لبنان حتّى إنّ الحريريّة بعده باتت حجّة بقاء وتأجيلاً لقوانين الاندثار. جاء الرجل في لحظة جيوستراتيجيّة نادرة من تاريخ العالم أتاحت له امتطاء فرصة العبور بالبلد صعوداً، منتشلاً إيّاه من تحت حطام احتراب أهلي من 15 عاماً.

ومن سخرية القدر أنّ مقتله أنهى تلك اللحظة الدولية إلى غير رجعة، ودفع بالبلد من جديد نحو هاويات لامست ذلك الاحتراب المقيت.

لم يكن رفيق الحريري “قصّة نجاح” و”تراجيديا موت” فقط. برز الرجل، وتنامى صيته، ووسع نفوذه، في مفترق تقاطعت داخله مصالح سوريا والسعودية والعرب والشرق والغرب. هو التقاطع نفسه الذي قرّر في تحوّل سحري غامض اختراع “مصالحة” الطائف عام 1989 لإنهاء الحرب الأهلية في لبنان.

تبادل اللبنانيون نظرات الخيبة حين اضطرّوا إلى الاعتقاد أنّ اندلاع حربهم سببها خلاف على صلاحيّات رئيس أو وزير. لكنّهم على الأقلّ باتوا يدركون أنّ احتراباً جديداً يحتاج إلى رعاية خارجية انتهت منذ ذلك الحين.

فلم يجدوا، على الرغم من الردح البيتيّ، من يرعى حرباً أهليّة جديدة. لا شيء كان يردُّ، على الرغم من زعم الوعي والمناعة، اندفاعهم إليها.

لم يعد رفيق الحريري. بقي بعيداً، وبعيداً جدّاً. حتّى إنّ الحزب الذي حمل اسمه قرّر أيضاً الابتعاد، وأن لا يعود للظهور إلّا في الذكرى السنويّة لإحياء ذكرى رحيله. وكأنّه في ذلك البعد، ولو مجازاً، لا عودة إلا بعودة الراحل الذي لن يعود.

لم يعد رفيق الحريري، لكنّ اللحظات التاريخية الجيوسياسية النادرة، التي حملته إلى لبنان زعيماً، عادت من جديد، وبقوّة مزلزلة توقظ سبات كلّ المنطقة، وتطيح بالعفن الخبيث الذي غيّبه يوم 14 شباط 2005.

تغيّر المشهد في المنطقة. تغيّر أكثر في لبنان وسوريا على نحو كان عصيّاً على التخيّل قبل شهور. سقط نظام الأسد، وترنّحت إمبراطورية العواصم الأربع.

بات للبنان رئيس جمهورية ورئيس حكومة وحكومة من خارج قدر الوصايتين. يكاد البلد لا يصدّق الأعراض الأولى لرحلة الخلاص المنشود بعد عقدين، منذ لحظة الاغتيال، من انحدار لم يتوقّف.

ربّما سيكون إحياء الذكرى العشرين لاغتيال رفيق الحريري خاتمة لسنوات لبنان من دون رفيق الحريري. سيدخل لبنان حتماً في زمن ما بعد الحريري، وما بعد الحريريّة، تماماً كما انتهى زمن الناصرية العربية، والشهابية اللبنانية، والماركسية الأممية.. إلخ، من دون أن يتجاهل التاريخ الأثر الذي تركه هؤلاء في حكايات بلدان وأمم.

يغادر لبنان مرحلة. سقط نظام الأسد. أُزيلت غيمة عن سوريا ولبنان معاً. ودخل البلد حقبة جديدة، بحذر وقلق، لكن بإيمان بغد أفضل، أو على الأقلّ آملاً ذلك.

قد لا يكون طيّ الصفحة سلساً. فأعداء ما يتحوّل في المنطقة جاهزون لارتكاب الكبائر في محاولة يائسة لاسترجاع غنائم تبدو زائلة مندثرة يوماً بعد يوم، وفي سعيٍ يبدو مستحيلاً لاستعادة يوم مضى، وإحياء عظام قبل أن تصبح رميماً.

مات رفيق الحريري بعد أشهر من “جلسة ذلّ” في حضرة الحاكم في دمشق. أزالت سوريا هذا الحاكم إلى غير رجعة، ونخالها انتقمت للراحل وللسوريّين واللبنانيين جميعاً. كانت دمشق في ذلك الزمن بعيدة على الرغم من قربها الجغرافي.

عادت سوريا من جديد إلى نفسها وتاريخها بعد اختطاف تجاوز 6 عقود. باتت سوريا عمقاً للبنان داخل المساحة العربية الكبرى. كان الراحل أوّل من قال: “أخاف على سوريا من هذا الولد”. صدقت النبوءة. وبدا أنّ خلاص لبنان يحتاج إلى خلاص سوريا.

تبدو المناسبة هذا العام أليمة ككلّ عام. لكنّها في ظلّ تحوّلات سوريا ولبنان التي أطاحت بالقتلة، تبدو وكأنّها نهاية عرض متواصل استمرّ 20 عاماً.

يحقّ للراحل أن يخلد للسكينة. انتقم قدر التحوّلات في المنطقة للزعيم الراحل غدراً. نُفّذ حكم المحكمة الدولية الخاصة، وأُسدل الستار على تراجيديا مقيتة شهدنا جميعاً فصولها السود.

https://anbaaexpress.ma/csnn9

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى