آراء
أخر الأخبار

الشرط البيولوجي للخداع الإعلامي.. الإعلام شريك في المعضلة الأنطولوجية

عقل بلا رَوِيَّة

ثمة ما هو حقيق بالبحث في موضوع الأيديولوجيا التي كانت ولا زالت حاجة بالقدر الذي تمثل فيه آفة. حاجة الإنسان لتصريف المعرفة في برنامج عملي، وآفة حين تتورّم وتنقلب إلى عنصر تشويش على الحقيقة.

ولطالما اعتقدنا أنّ الأيديولوجيا قدر منزّل من خارج الذّات، وهو ما يحجب عنّا فهم طبيعة الأيديولوجيا ووظيفتها. إنّ الأمر الذي يبدو ظاهرة في الفكر والواقع الإنسانيين، لا يمكن فهمه خارج سؤال القابلية الذّاتية.

فالإنسان كائن أيديولوجي باعتباره غير قادر على المعاقلة خارج الأيديولوجيا. فهو ليس عاقلا بالمعنى المنطقي للعبارة، بل هو كائن مُغالط، يحتلّ الجهاز الأيديولوجي موقعا استراتيجيا في خبرته ورؤيته للأشياء.

الجهاز الأيديولوجي هنا بتعبير ألتوسير، وأمّا الاندفاع الذّاتي الذي يجعل معاقرة الأيديولوجيا مطلبا ماتعا للذات فهي حسب جيجيك تذهب باتجاه أنّ التحرر من الأيديولوجيا مكلف ويتطلّب قدرا من العنف، فالحرية ليست اختيارا، بل يتعيّن فرضها.

وأذهب أبعد من ذلك، فالأيديولوجيا هي مصداق القابلية للعبودية، حيث أنّ اللحظة الماتعة للعبيد هو رؤية العالم على غير حقيقته. إنّ الأيديولوجيا بإنتاجها للزيف تخفف من آلام العبودية، وتجعلها ماتعة.

لا يستطيع الكائن الإنقطاع عن هذا الإدمان، بل تصبح الأيديولوجيا شرطا للوجود، لهذا الدازاين (=هيدغر) المستأنس بعبوديته. فالزيف حاجة للتّموجد الأدنى، لكائن مُفَرِّط في مجده الوجودي، كائن عاجز عن رؤية الأشياء كما هي. وهنا يأتي دور الإعلام، وتقنيته الفائقة التي تستند إلى القابلية للانخداع الثاوية في بنيتنا البصرية والسمعية، حيث النّط بين الثيمات والتكرار ولعبة الصورة.

الشرط البيولوجي للتضليل الإعلامي

ثمة قابلة لتقبّل المغالطة كحقيقة، قابلية تستند إلى حواسنا، إلى عمل الدماغ بوصفه جهاز استقبال لإشارة العقل. حين يسعى الإعلام تحت ما يسمى بضغط الوقت لتسريع وتيرة النقاش والقفز على الثيمات قبل استيفائها بالنقاش، حالة تؤدّي إلى الخصاء الفكري، فذلك لأنّ العقل يتطلّب زمنا موضوعيّا لإكمال مهمّة النظر.

هذا القفز مقصود في لعبة تفريغ الكلام من المضمون الفكري، ولكن كم من رسالة يتم تمريرها، لأنّ سلطة إدارة النّقاش ليست ديمقراطية، وهي تختبئ خلف سلطة الزّمن الذي تحت سطوة الإدارة. ويلعب التكرار دورا بيداغوجيا، لأنّ الذهن غير معني بالمضمون تحت طائلة ديكتاتورية الزمن الممنوح، وغياب الرّوية، تصبح الحقيقة رهينة لسلطة التّكرار.

تستند هذه الخدعة على وضعية الدماغ غير القادر على استيعاب أكثر من موضوع في ظرف زمني وجيز، كما يصعب على الذهن مقاومة التكرار. وهذه مسألة تتعلق بالقابلية البيولوجية للدماغ والملكات المساعدة على التفكير بما في ذلك الإحساس نفسه.

أمّا لعبة الصورة، فواضحة وضوح الشمس في رابعة النّهار، حيث إنّ القدرة البصرية عاجزة عن التخلّص من أثر الرؤية الأولى قبل أن تستعدّ لاستقبال الثانية.

فما يبدو من صورة في حالة حركة ليست هي الواقع، لأنّ القضية لها صلة بقذف صور ثابتة يعجز البصر أن يدرك ما يتخللها من فجوات، فيحصل الإنطباع بوجود حركة.

إذا كانت تلك هي أولى أشكال الخداع التي تستند إلى تقنية بصرية، لعلها أيضا تنطلق من استيعاب للقابلية للخداع بوصفه أحيانا طريقا منطقيا لفهم العالم، فإنّ الأمر هنا يتطلّب ليس فقط منطقا تجريديا، بل إنّنا في حاجة إلى منطق بصري وفهم الوضعية البيولوجية للكائن المتمنطق نفسه.

إنّ الإعلام وبناء على هذه الحقائق الخفية على الرأي العام الذي يبدو في حالة استمتاع بما يطلبه من حقائق حسب الشرط البيولوجي، يجعلنا ندرك أنّ الرّوية مؤلمة للرأي العام، والتربية على امتلاك الحقائق بواسطة هذا الخصاء الفكري تُشعر المستهلك للزيف بأنّه امتلك الحقيقة بسرعة تجعله يتسلّط على الزمن، لكنها في الحقيقة هي سرعة يحددها زمن الرغبة المتلهّفة للامتلاك وليس بسرعة تحددها الروية، أي الزمن الموضوعي للتّعقٌّل.

لقد استفادت الثورة الميديولوجية من هذه الوضعية البيولوجية، واستفحال الجهل بشروط التّلقي الموضوعي للحقيقة، لتنجز مهمّة الخداع الأنطولوجي الذي جعل القطيع البشري هو نفسه يحرس هذه الوضعية ويحميها من خطر التّحرر، أي يُسخر ملكاته الأخرى في صدّ أي عملية تحرر من هذا الخداع.

إنّ الوضعية المزرية للكائن المعاصر إزاء هذا العصف الميديولوجي المهدد للوجود، تهدّد مستقبل القابلية للتحرر.

ففي زمن مضى كان العائق ضد التحرر هو إلى حدّ ما خارجي بنسبة أكبر، لكنه اليوم هو عائق داخلي.

إنّ عدوّ الإعلام هو الرّوية، هو التفكير في حقيقة الأشياء خارج بيداغوجيا التكرار. لقد باتت القابلية اليوم لِتمثُّل الحقيقة جاهزة أكثر من القابلية للتّفكير فيها.

إنّ المغالطة الإعلامية تراهن على القابلية للعبودية البصرية، الجمالية الخادعة للصورة والخطاب، إعلام لا يمنح المتلقي لحظة لتّأمّل المحتوى، لأنّه في يبدو في صبيب دائم لتعزيز الخداع.

استنزاف بعيد المدى لما تبقّى من القابلية للتّحرر. فذات هذا وضعها لم تعد آبهة بالحقيقة، بل هي في حالة استهلاك فوجبات سريعة مضرّة بالعقل.

إنّ الرّوية هي شرط كائن لا يهرول في مهمّة التّعقُّل، هي عنوان تحرر أنطولوجي سابق للتحرر الاجتماعي. والمهمّة التّاريخية للتحرر هي أنطولوجية وليست كرونولوجية.

فالتحرر الأنطولوجي لا يقف عند عوارض الزّمان الذي يبدو موضوعيا، وهو ذاته الخداع الذي تلقّاه “الدازاين” في انحطاط ميتافيزيقي.

إنّ الانبعاث الأنطولوجي يبدأ من تعزيز الرّوية، ومن التحرر من الإعلام ليس بوصفه جهازا عارضا في السيطرة الحديثة على المستهلك، بل بوصفه ارتقى إلى مستوى التهديد الأنطولوجي لكائن يتلقّى الزيف بمتعة ناذرة.

إنّ عدوّ الإعلام هو الرغبة في التحرر من سُلطته التي باتت هي الأولى في العالم، إنّ ما يسميه هيدغر بالدازاين، هو اليوم ذلك المقذوف به هناك، كرهينة للإعلام المسؤول عن إعادة تشكيل المعنى والوجود على مسافة فلكية من الرّوية.

https://anbaaexpress.ma/otu8z

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى