آراءأفريقيا
أخر الأخبار

ليبيا وتونس بين الهيمنة الجزائرية والمصالح الإيطالية: الهندسة الخفية لإعادة تشكيل المعادلة السياسية

فيصل مرجاني

الوضع الجيوسياسي الراهن في شمال إفريقيا يعكس تفاعلات معقدة بين الفاعلين الإقليميين والدوليين، حيث تتداخل المصالح الأمنية، الاقتصادية والاستراتيجية في إعادة تشكيل موازين القوة داخل ليبيا وتونس.

في هذا السياق، يتموضع التدخل الجزائري كمُعطى محوري في فرض مسارات سياسية وأمنية تتماهى مع رؤيته للمنطقة، موظفًا أدوات دبلوماسية واستخباراتية متعددة لضمان تأثيره على مخرجات المعادلة الإقليمية.

يتوازى هذا مع تقارب غير مُعلن مع إيطاليا، يُترجم في تعاون استراتيجي شديد السرية يُعنى بإدارة الملفات الليبية والتونسية، وفق حسابات تحكمها ضرورات السيطرة وتقويض أي مبادرة تتعارض مع مصالح الطرفين.

هذا التموضع يُثير تساؤلات جوهرية حول الرهانات الإيطالية في ليبيا، أسباب اعتمادها على الجزائر كوسيط خفي، وأبعاد سلوكها السياسي القائم على تعطيل أي مشروع توافقي داخل ليبيا.

التحركات الجزائرية في ليبيا وتونس ليست مجرد استجابة ظرفية لمعطيات إقليمية متغيرة، بل هي امتداد لعقيدة استراتيجية تسعى إلى إعادة هندسة التوازنات وفق منظور هيمني يضمن احتكار صناعة القرار المغاربي.

في ليبيا، يتجلى هذا عبر دينامية دبلوماسية حذرة تتداخل فيها أدوات الضغط السياسي والدعم الاستخباراتي لبعض الفاعلين المحليين، بما يضمن تعطيل أي دينامية لا تخدم المصالح الجزائرية.

أما في تونس، فتُستثمر الهشاشة المؤسساتية لصياغة دور وصائي غير مُعلن، يمنح الجزائر نفوذًا يتجاوز القنوات الدبلوماسية التقليدية، وصولًا إلى تكريس واقع يُفرغ السيادة التونسية من بعدها الفعلي.

هذه المنهجية تُترجم رؤية استراتيجية ترى في استقرار البلدين وفق مقاربة لا تخضع للمحددات الجزائرية تهديدًا مباشرًا يُعيد تشكيل المجال المغاربي على أسس جديدة قد تضعف موقع الجزائر كلاعب مركزي.

في المقابل، تبرز إيطاليا كلاعب خارجي يسعى إلى إعادة ترسيخ نفوذه التاريخي داخل ليبيا، انطلاقًا من اعتبارات طاقوية، أمنية وجيوسياسية.

ليبيا لم تغادر يومًا حسابات روما الاستراتيجية، بل ظلت تمثل امتدادًا جيوسياسيًا تُراهن عليه إيطاليا لضمان تأمين مصالحها الحيوية. الغاز والنفط يشكلان محددًا جوهريًا في هذه الاستراتيجية، حيث تُدرك إيطاليا أن الحفاظ على استمرارية تدفق الموارد الليبية يُمثل عنصرًا رئيسيًا في معادلة أمنها الطاقوي.

في السياق ذاته، يرتبط الاهتمام الإيطالي بليبيا بمحاولة تطويق النفوذ الفرنسي والتركي، حيث تسعى روما إلى فرض تموقع يمنع باريس وأنقرة من إعادة تشكيل المشهد وفق ترتيبات قد تُهمش المصالح الإيطالية.

كذلك حيث يُشكل ملف الهجرة غير النظامية عاملًا محفزًا لاستمرار الانخراط الإيطالي في ليبيا، نظرًا إلى اعتبارها منطقة عبور رئيسية، وهو ما يدفع روما إلى محاولة ضمان بقاء ديناميات التحكم في هذا المسار ضمن نطاق إدارتها.

في سبيل تحقيق هذه الأهداف، تعتمد إيطاليا على الجزائر كشريك استراتيجي غير مُعلن، تُمنح بموجبه الجزائر دورًا مركزيًا في إدارة الملف الليبي مقابل توسيع هامش تحركها في المجال الأوروبي، خصوصًا فيما يتعلق بالمعاملات الطاقوية.

هذا التعاون السري يمنح الطرفين ميزة مزدوجة، حيث تتمكن إيطاليا من توظيف النفوذ الجزائري لفرض توازنات تمنع أي مبادرة لا تصب في مصالحها، بينما تستفيد الجزائر من الغطاء الإيطالي لفرض نفسها كفاعل رئيسي داخل ليبيا وتونس، دون أن تُضطر إلى مواجهة ضغوط دولية مباشرة.

هذا التحالف المُبطن يتجاوز كونه مجرد تنسيق مرحلي، ليأخذ طابعًا استراتيجياً يعيد رسم معالم التدافع داخل المنطقة، حيث يُشكل حاجزًا أمام أي مبادرات عربية أو إقليمية قد تسعى إلى إعادة هندسة المشهد خارج دائرة التأثير الإيطالي-الجزائري.

الرهان الإيطالي داخل ليبيا يقوم على منطق تعطيل الفعل السياسي، حيث تسعى روما إلى تكريس حالة “الفوضى المدارة”، بما يضمن استمرار حاجتها إلى التدخل وإعادة توجيه المسارات وفق ما يخدم مصالحها.

هذا النهج يجعل من إيطاليا قوة عرقلة أكثر منها قوة استقرار، حيث يتمحور دورها حول ضمان استمرار الأزمة الليبية ضمن مستويات معينة من الاضطراب الذي يُتيح لها مراكمة أدوات النفوذ، دون الاضطرار إلى الانخراط في حل جذري قد يُفضي إلى خروجها من المعادلة.

في هذا الإطار، تُعد الجزائر أحد أبرز الأدوات التي يتم توظيفها لمنع أي مبادرة عربية أو مغاربية تهدف إلى إعادة استقرار ليبيا على أسس لا تتوافق مع الحسابات الإيطالية.

التحالف الإيطالي-الجزائري يُشكل بذلك إحدى أبرز أدوات إعادة رسم خارطة النفوذ في شمال إفريقيا، حيث يُعيد توزيع الأدوار وفق صيغة تُبقي ليبيا وتونس ضمن دائرة اللايقين السياسي، في انتظار نضوج شروط إعادة هندسة التوازنات بما يخدم أجندات الفاعلين الرئيسيين.

في ظل غياب تدخل مضاد يعيد التوازن للمشهد، سيظل هذا المحور يتحرك دون مقاومة فعلية، مما يجعل من مستقبل المنطقة رهينة ترتيبات غير مُعلنة تُدار بعيدًا عن الفاعلين التقليديين، في سياق تتعزز فيه ديناميات التحكم الخارجي بمقدرات الفضاء المغاربي.

https://anbaaexpress.ma/0wf0k

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى