عبد المجيد بن شاوية
بات معلوما على نطاق أوسع في الأدبيات السياسية في عصرنا هذا، ما يصطلح عليه بـ “مفهوم المؤامرة” قلما يوجد مقال أو دراسة أو كتاب، له علاقة بالمجال السياسي وارتباطاته بحقول أخرى، يخلو من إشارة أو إيراد هذا المفهوم في ثنايا متن أحد هذه المنجزات الفكرية، بل أغلبية المثقفين والباحثين والسياسيين والمفكرين، في إطار تصوراتهم وتناولاتهم التحليلية والنقدية والدراسية، حين يقفون على تخوم السياسي..
نجدهم يوردون هذا المفهوم، في إشارة أو تلميح من قريب أو من بعيد، وقد يخصص منهم فصلا أو كتابا، حديثا عنه بشكل مستفيض، ومع توالي الأحداث وعلاقاتها المتشعبة بفواعلها وأطرافها، وتداخل المعطيات والخيوط في نسج وظهور الوقائع، بات واردا بشكل عريض في أذهان الأفراد والجماعات والكتل الإنسية والدول، تقصي وبحث كل ما يتعلق بمحددات الحدث في علاقاته بالأطراف والمعلومات الخاصة به، وما يمكن حدوثه من تجليات، في عالمنا المعاصر، في محاولة للتأكد من حضور فعل ما من وحي المؤامرة أو خلوه في قيام المعطى الحاصل في مجال من مجالات الأحداث أو العلاقات، سواء تعلقت بالأفراد أو الجماعات أو المؤسسات على إختلافها.
مع تقاطع المصالح والصراع على المكاسب المادية والرمزية بين المجموعات الإنسية والمؤسسات والدول، أصبح من المفروض على كل فاعل في الساحة الوطنية أو الدولية أن يعمل على تأمين أو البحث عن طرق وأساليب لحفظ مصالحه أو الزيادة في مكاسبه أو إيجاد موطئ قدم في رقعة شطرنجية يسود فيها الصراع بحسب قواعد اللعبة والوضعيات الحاصلة، على أساس أفعال إرادية تآمرية وحربائية، والمتآمر لا يعير اهتماما لقواعد الأخلاق والقيم، مادام أنه يصبو إلى تحقيق مكاسب ذاتية، في تعالق مع الأطراف الأخرى، من أجل ضمان نسبة ما أو سهم ما في سلة المصالح والمكاسب المراد أو بلوغها أو تقاسمها أو الاستحواذ عليها، ليس فقط على المستوى الاقتصادي أو السياسي، بل يتعدى هذا أو ذاك إلى حقول أخرى..
لذلك يعمل على أساليب التضليل والمكر، وبحث كيفية دس الدسائس الملغومة، وفي بعض الأحيان يوهم الطرف أو الأطراف الأخرى أنه يعمل على أساس حسن النية في أطروحاته وتصوراته لإيهام الآخر بكونها تنتج مصالح وأغراضا ذات قيمة مشتركة بهدف خدمة ذات النفع العام المشترك لطرفين أو أطراف متعددة في إطار تعارض بين مصالح قوى أخرى.
فقد شاع الاعتقاد بشكل واسع في كل أرجاء العالم اليوم بأن نظرية المؤامرة أصبحت نظرية أو مفهوما لا محيد عنه في تحليل أي حدث في كل بقاع المعمورة، بمجرد إعلان أي خبر أو مادة أو خطة أو عمل أو شراكة بين طرفين أو أكثر، كيف ما كانت طبيعة كل حدث إلا وتبادر إلى الأذهان أن شيئا قد حيك أو خطط له مع سبق الإصرار والنية المبيتة لدى الأطراف المعنية، وهو ما نلمسه بشكل كبير في عدة تحليلات ودراسات وندوات ومواد العالم الإعلامي بكل لغاته وجغرافيات..
طبعا بعد حصول أحداث قد تبعث على طرح الأسئلة وتناسل الخطابات والافتراضات والتفكير في الخيوط الناظمة في حبكها، ولنا جملة من المعطيات على الساحة العربية / الإسلامية ما يجعل المواطن العادي وغير العادي أن يتأمل في مجريات الأحداث على ساحته، وأن يطرح بصددها التساؤلات وأن يولد عنها الكثير من الافتراضات الممكنة في علاقات هاته الوقائع بالأطراف سواء بداخل جغرافيته أو خارجها، فمع شيوع نظرية المؤامرة في تصورات المواطن العربي / المسلم، حيث لا يمكن لأي كان منه في كل بقاع ساحاته الممتدة من المحيط إلى الخليج، التفكير من دون استحضار مفعول نظرية المؤامرة، خاصة مع المحن وتراكمات الهزائم المتتالية..
إضافة إلى مظاهر التخلف والجهل بالحقائق، وكذا ما يعيشه الآن من قلاقل واضطرابات وما كان من انتفاضات وثورات، كل هذا يحمله على التوجس من المستقبل وأن مسلسل المؤامرات والدسائس والمكائد قد لا ينتهي في الآماد القريبة، وأنه بيد عدو متربص به في أية لحظة داخليا وخارجيا على السواء، مما جعل منسوب هواجس المؤامرات في تزايد مهول، إذ كل حدث معطى وحاصل على الساحة أصبح مؤشرا على فعل مؤامراتي من قبل أطراف خفية أو معلنة، لكن السؤال المطروح بإلحاح، هو كالتالي:
كيف الخلاص من فكرة المؤامرة اللصيقة بذهنية الجماهير العربية / الإسلامية على جميع المستويات في حياتها عموما ؟
فعند سؤال ما العمل اتجاه نظرية المؤامرة، يتضح أن الإنسان العربي / المسلم يسلم بمعطيات من دون فحصها، ومن دون فهم جذري للأطراف الأخرى، علاوة على أنه لا يساير وتائرها سواء على المدى المتوسط أو على المدى البعيد، ليركن إلى زوايا التشكي وبعث الآهات على الأثير من دون ردود أفعال ممكنة، ولا محاولات الإجهاد الفكري والعقلاني والثقافي والسياسي لمواجهة ما يحاك ضده أو ما يعتمل بداخل أروقة الآخر الذي يخطط استراتيجياته وفق مصالحه أكان داخليا أو خارجيا، لذا يجب طرح بعض من الإمكانات للتصدي لنظرية المؤامرة، من بينها:
– الوعي بالذات وبكل مقوماتها.
– قراءة وتحليل ودراسة الواقع العربي / الإسلامي بعين العقل كأداة ونهج العقلانية كمذهب في كل أمور الحياة الخاصة والعامة.
– تفعيل الإرادة الفردية والجماعية للدفع بالتفكير نحو التطور والتقدم للقضاء على السلبية المخيمة على الأنفس بشكل رهيب جدا.
– الإيمان بقدرة التغيير وإمكانيات تحقيق الأهداف والمصالح الوطنية والقومية.
– الوقوف عند كل الخيبات والانكسارات التي عاشتها الأوطان العربية / الإسلامية وتأملها ودراستها بدل التسليم بنتائجها الكارثية دون ردود أفعال للتخلص منها.
– فهم الآخر فهما حقيقيا في كل أبعاده السياسية والأيديولوجية والإستراتيجية والثقافية والحضارية.
– تحديد خارطة طريق بوعي استراتيجي وحضاري للعمل على كسب الأهداف والمرامي بوعي شامل بالقدرات والإمكانيات الذاتية الوطنية والقومية معا.
– التخلص من عقدة نظرية المؤامرة وكأنها أسطورة بفواعلها غير المرئيين، بقدر ما هي إلا تفاعلات إرادية لفاعلين يعرفون كيف يشتغلون على قضاياهم ومصالحهم وماذا يريدون ولماذا هم يمارسون الصراع مع كتل أخرى وما هي أهدافهم بشكل دقيق جدا.
– الانفكاك من مفعول الرؤية السلبية للذات والشعور بالدونية ومن الاعتقاد المطلق بكون الآخر نال من القوة ما يجعله بطلا سرمديا على مر العصور.
– الإقلاع عن الشعور والاعتقاد بأن قدر الضحية قدر مطلق وأن الآخر الجلاد قد أحكم سيطرته في كل تفاصيل الحياة عموما.
– التخلص من اليأس والإحباط اللذين يلفان الذات العربية / الإسلامية، أفرادا وجماعات ومؤسسات.
– الحسم مع القوى الرجعية داخليا بوعي وبإرادة ذاتية خالصة.
– حضور المفكر والمثقف والباحث والعالم في الساحة بكلماتهم الفصل في توجيه الرأي العام الوطني والقومي.
– الرفع من مستوى الوعي السياسي لدى الجماهير العربية / الإسلامية.
– جعل المعلومة كيف ما كانت طبيعتها بين أيدي المواطن حتى يسمو بوعيه الذاتي في علاقاته بإحداثيات وجوده داخليا وخارجيا.
– تشجيع البحث العلمي والثقافي في الأوساط والمؤسسات على اختلاف انشغالاتها العلمية والفكرية والثقافية.
تلكم بعض من الآليات والإمكانات الممكنة الاشتغال عليها للتخلص من عقدة المؤامرة التي تخيم على تصورات الجماهير العربية / الإسلامية في علاقاتها بالآخر، لإعادة الاعتبار لكل المقومات الوجودية والحضارية، وتحقيق المكاسب والرهانات المعلقة بفعل المخططات والاستراتيجيات المحبوكة بعقل الآخر الواعي والجاد في كل خطواته الدقيقة.
أما والحالة السائدة في العالم العربي / الإسلامي على هذه النمطية، لا تسعفه في كسب رهاناته المستقبلية، إلا إذا تخلص من سلبيات وتراكمات محنه ونكباته وتعثراته على جميع الصعد، سياسيا، ثقافيا، فكريا، وأيديولوجيا، وله من التجارب ما يكفي لأخذ الدروس والعبر للخلاص من براثين الوضع المأزوم وعقد السلبية والدونية بفعل استسلامه للمؤامرات والمخططات المحاكة ضده في كل ثنايا وجوده التاريخي والحضاري.
* كاتب مغربي
تحياتي استادي الكاتب عبد المجيد بن الشاوية كل تقدير واحترام