آراءثقافة
أخر الأخبار

عودة إلى الميديا – غالطة.. توطئة قبل بلوغ الكتاب مرحلة النّشر

كانت الفلسفة حاضرة بقوة في نقد أشكال الخداع الوسائطي، والذي ازداد خطورة في سياق تنامي الثورة الرقمية وتحديات الأمن السيبراني

سأتجنّب الإغراق في حقيقة العُصاب (Neurosis)، المصطلح الذي يعود إلى ما قبل بروز مدرسة التحليل النّفسي، منذ استعمله العالم الإسكوتلاندي الدكتور ويليام كولين عام 1769م .

يومها كان المقصود بذلك، الاضطراب النفسي الناجم عن إصابة في الجهاز العصبي. لكن مع التحليل النفسي سيكون الأمر مختلفا تماما، لن نتحدث عن أسباب عضوية، وإن كان العصاب قد يخلف آثارا جسدية أحيانا، بل الأمر يتعلق ببنية نفسية هي التي تحدد نوعية هذا التّشظّي، في مثال البلورة التي استعملها فرويد توصيفا لطبيعة الكسر.

ليس هذا ما يهمنا، ولكنني سأختار هذا العنوان لتوصيف وضعية الإعلام وعموم الميديا، بوصفها تحوّلت من فكرة السلطة الرابعة التي لم تكن إلاّ خدعة آنس بها أصحابها وانتهت بهم إلى حالة تقمّص مستدام، ثم سرعان ما تحولت السلطة الرابعة إلى عُصاب، أحيانا يغدوا اضطرابا عقليا يفصل الصّابر عن الواقع.

موضوع الكتاب الذي يتدحرج بصعوبة نحو النّاشر، تأخر عدة سنوات، ما قبل كوفيد 19. استعراض لكل أشكال المغالطات بوصفها تتجاوز كونها مغالطات مفتعلة، بل تصبح جزء من دفاعات لاشعورية، تنتهي بالاستحواذ على الرّأي العام.

وفي سياق السُّعار الميديائي استفحل العُصاب وتراخى الضمير المهني واستحال التّواصل على أسس منطقية، إنّ الرأي العام نفسه بات شريكا في عملية التّلقّي الزّائف، منذ فقد مناعته أمام الكذب المطلق. لقد ساهمت الميديا في استفحال وضع الكذب، فالسياسة لا تستطيع أن تكذب إلاّ من خلال الميديا، وكان ألكسندر كوريه (Alexander Koyeré) قد تناول ذلك في تأمّلاته في الكذب السياسي في عام 1943م، لقد تناول هذا الاستفحال الذي ليس له نظير من قبل، حين أصبح الكذب وقحا وممنهجا.

كان لا بد من تتبع أنواع ومراتب المغالطات التي تستعمل في الخطاب الإعلامي، وهي كثيرة، ولا يصعب على المنطقي أن يمسكها من ذيلها في حالة تسلّل.

ومع أنّ الخطاب الإعلامي يبدو محكوما اليوم بالمغالطة وليس هو من يتحكم فيها، فإنّ الميديا تصبح أداة لتقويض الدماغ البشري. لقد تبادل المُخاطِب والمُخاطَبة وظيفة الزيف وتكاملا في مهمّة تقويض الحقيقة التي لم تعد مطلبا لذات تملّكها العُصاب.

كل حقل من حقول المعرفة معرّض للإصابة. وكما أنّ انقلاب الأيديولوجيا يعدّ الخطر الأكبر على المعرفة، أقول انقلاب الأيديولوجيا وليس حضورها، لأنّ المعضلة ليس في مطلق وجودها بوصفها ضرورة، بل انقلابها حين تحتل وظيفة المعرفة وتصبح منتجة للأفكار وليس تنزيل الأفكار.

لكن في الخطاب الإعلامي غالبا ما يغيب النّقاش الجاد في الخلفيات العميقة التي وحدها تساعد هذا الجسد الجريح للحصول على الترياق، وإنقاذ هذا القطاع الحيوي من حالة العُصاب المزمن.

يتعيّن وضع شروط قاسية كما في العسكرية لمن يقتحم مسؤولية مخاطبة الرأي العام، وكما لا يسمح لذوي القدم المسطحة أن يدخلوا في سلك العسكرية حفاظا عليهم، فكذلك تعين عدم قبول العقول المسطّحة في سلك الإعلام، حفاظا عليهم من الإصابة.

إنّها خطورة لا تقلّ عن مخاطبة مجنون يخفي جنونه. وكما ذكرنا مرارا فإنّ التفاهة أخطر من الجنون، فالتفاهة تسقط الحضارات نفسها.

وجب إذن إنجاز مهمّة إعلام – الإعلام، أي ضرب من الميديا الواصفة التي تتطلّب مقاربة نقدية تمتدّ عبر النظرية الأدبية والتحليل النفسي والاجتماعي والفلسفي والمنطقي والتقني للخطاب، يجب أن لا يترك هذا الحقل للفوضى، بل هو ككل ظاهرة، تقتضي حركة نقدية.

ولقد حصل هذا بأشكال ومستويات شتّى لعب فيها مفكرون وفلاسفة دورا أساسيا في مقاربة هذه الظاهرة، لا من حيث علم الوسائط وفلسفة الصورة (دوبريه) ولا من حيث الأثر الاجتماعي(بيير بورديو) ولا من حيث السيميوزيس (أمبرتو إيكو) ولا من حيث تقنية الزيف والإختبار (إغناسيو راموني)…

كانت الفلسفة حاضرة بقوة في نقد أشكال الخداع الوسائطي، والذي ازداد خطورة في سياق تنامي الثورة الرقمية وتحديات الأمن السيبراني.

وهذه ظاهرة باتت عالمية وليست خاصة بالمجال العربي والمحلّي، غير أنّ هناك قدرا من المناعة توفرها بعض الأعراف والقوانين بخلاف ما يجري في مجتمعات كمجتمعاتنا، فاقدة لتلك المناعة.

حين يكف القائم على الإعلام بوصفه مهنة مؤطّرة بأخلاقيات وأعراف تساعد على التنمية وليس الفوضى، ويكفّ أن يعتبر نفسه قائم مقام في مهنة تتطلّب احترام عقل المتلقّي، أي حينما يكف ابن هذا الحقل عن أن يعتبرها سلطة رابعة، بل يعتبرها مهنة في حقل هو كسائر الحقول، ربما حينئذ تستقيم مهمّته ككادح على طريق التنمية المستدامة والوفاء للمعنى.

إنّ الحقل الذي تنتمي إليه هذه المعالجة جدير بأن نسمّيها محاولة ميتا-إعلامية، وهو يلاحق المغالطة من منظور العصاب، حيث باتت ذاتية للخطاب، يتعذّر وجود فكاك بينهما.

إنّ ما يبدو مهنيا هنا هو امتلاك تقنية إقناع لذات عارية من أي حصانة منطقية، غاية هذه المحاولة تمكين المتلقّي من الحد الأدنى من المناعة الضرورية، تمكينه من ثقافة منطقية للصمود في وجه المؤامرة الكونية ضدّ الدماغ البشري.

https://anbaaexpress.ma/tfkko

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى