إحتضنت العاصمة المغربية الرباط قبل شهر تقريبا المؤتمر العالمي للأممية الاشتراكية والذي نظمة حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وشارك فيها أزيد من 300 عضو من كل أقطار العالم.
سعت الأحزاب الاشتراكية ذات التوجه اليساري والاجتماعي والديمقراطي عبر العالم إلى إعادة تثبيت مكانتها في المشهد السياسي والحزبي الدولي، لمواجهة منافسيها من اليمين والليبراليين.
ويترأس منظمة الأممية الاشتراكية حاليا رئيس الحكومة الإسباني بيدرو سانشيز الذي شارك في المؤتمر ومعه أعضاء من الحزب العمالي الاشتراكي الإسباني، وهو صديق للمغرب وله علاقات متميزة مع حزب الاتحاد الاشتراكي المغربي.
نجاح المؤتمر الدولي تجلى في طرحه للقضايا الدولية الكبرى التي باتت تؤرق النظام العالمي ككل، من قضايا المناخ وحقوق الإنسان وإلى القضية الفلسطينية وحرب غزة وحقوق النساء، والوضع في إفريقيا، كما لم تغب القضية الوطنية المغربية عن المؤتمر، وخرج بتوصيات وقرارات مهمة ستكون ذات تأثير في السياسات القادمة.
هذا المؤتمر، يشكل نجاحا مهما للدبلوماسية الحزبية المغربية التي سبق وأن دعا اليها جلالة الملك محمد السادس إلى تفعيلها بقوة، ودعا الأحزاب البرلمانية إلى الانخراط الكامل في مسلسل دعم القضية الوطنية وفي الدينامية الدبلوماسية التي تقودها المؤسسة الملكية ووزارة الخارجية وكل مؤسسات الدولة المغربية.
وللتحدث أكثر وبشكل أشمل وأعم، بشأن هذا المؤتمر سيتحدث لنا الدكتور مشيج القرقري السياسي والحقوقي المغربي والكاتب الصحفي وعضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عضو لجنة الاخلاقيات بالأممية الاشتراكية، مسؤول العلاقات الخارجية مع دول أمريكا الاتينية وأفريقيا.
في عام 1998 حصل على الدكتوراه في الصيدلية من جامعة غرناطة إسبانيا وفي عام 2002 حاز على دبلوم الدراسات المتقدمة في: “الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للدواء والصيدلة” من نفس الجامعة.
حاصل على الاجازة في القانون العام وفي عام 2024 حصل على ماجستير حقوق الإنسان بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان في المغرب.
شغل منصب نائب رئيس الاتحاد الوطني لنقابات صيادلة المغرب وكان الأمين العام السابق لجمعية الصيادلة الخريجين من الجامعات الاسبانية.
نائب أول لرئيس بلدية مدينة العرائش (2009-2015)و (2015-2021) شارك في بعثات دولية بإسبانيا وفرنسا والبرتغال وإيطاليا، فنزويلا، الإكوادور، كولومبيا، جمهورية الدومينيكان، بوليفيا، المكسيك، السنغال، الرأس الأخضر، جنوب أفريقيا، المجر، الدنمارك، سويسرا.
مراقب دولي للانتخابات 2023 مع منتدى الأحزاب بأمريكا اللاتينية و الكاراييب COPPPAL، في الانتخابات التشريعية في المكسيك.
2024 مع التحالف التقدمي للأمريكيتين APA للانتخابات الرئاسية بجمهورية الدومينيكان.
كما أنه عضو فعال في شبكة مينا لاتينا، لتعزيز التبادل ات العلاقات الثقافية والسياسية بين الشرق الأوسط وشمال أفريقيا و أمريكا اللاتينية..الخ
واليكم نص الحوار
المؤتمر كان فرصة ثمينة للوقوف الذي فتح الباب أمام عدد من الأحزاب الاشتراكية القادمة من إفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا للانضمام إلى الأممية الاشتراكية. فهل تعتقد أن المؤتمر نجح في تحقيق هذا الهدف؟ وما هي التحديات التي واجهت هذه الأحزاب خلال اندماجها في الأممية؟
لقد تدارست لجنة الاخلاقيات الأممية قبل انعقاد المجلس الدولي بالرباط طلبات عدد كبير من الأحزاب الاشتراكية في العالم و التي وردت على المنظمة خلال السنوات الأخيرة، و باعتبارها اللجنة الموكولة لها مهمة تمحيص وضعية الأحزاب و مدى إستجابتها و إنسجامها مع الخط الاديلوجي للأممية الاشتراكية و مساند القضايا العادلة في العالم، و كذا هويتها و مدى إحترامها و دفاعها عن الديمقراطية و التقدمية و حقوق الإنسان في العالم.. كون عدد الطلبات مهم جدا، فقد عرف الاجتماع نقاش حاد بين أعضاء اللجنة، و التي قررت الموافقة على عدد محدود..
ففيما يخص طلبات العضوية أو تغييرها من مختلف القارات، و بعد تبادل وجهات النظر مع رؤساء اللجان الإقليمية..
تم قبول كأعضاء مراقبين:
UNAMOS – نيكاراغوا
حزب الحرية والتنمية (PLD) – تشاد
حركة صحراويون من أجل السلام (MSP)
كما تم قبول كأعضاء كاملين:
الحزب الاجتماعي الديمقراطي في أوكرانيا (SDPU)
الحزب الاجتماعي الديمقراطي في صربيا (SDPS)
الجبهة الكاميرونية (CF) – الكاميرون
قبول حزب العمال المالطي (PL) الذي عبّر عن رغبته في الانضمام مجددًا إلى الاشتراكية الدولية كعضو كامل.
هذه بعض من القرارات التى تم إتخادها، و قد تمت الموافقة بالإجماع على مقترحات لجنة الاخلاقيات من قبل رئاسة الاشتراكية الدولية والمجلس الدولي.
حسب علمي، خلال وجودك بإسبانيا أيام الجامعة بغرناطة، كنت من مناضلي الحزب الاشتراكي العمالي الإسباني PSOE. كيف تشخصون دور بدرو سانشيز في تغيير المعادلة السياسية في المغرب وإسبانيا، خصوصا دعمه الواضح لمقترح الحكم الذاتي؟
وصول بيدرو سانشيز إلى الكتابة العامة للحزب الاشتراكي العمالي الإسباني PSOE سنة 2014, جاء بعد فترة حزبية عصيبة، انتهت بدعوة خوسيه لويس ثاباتيرو للانتخابات سابقة لأوانها، و عرفت حصول الحزب الاشتراكي على أسوء نتائج إنتخابية في تاريخه، لتفتح الباب لعودة الحرس القديم إلى الإمساك بزمام الحزب..
واجه بيدرو سانشيز عائقين أساسيين في مساره، الأول داخلي هو كونه قاد تحول كبير داخل هياكل حزبه و إصراره على تجديد كل النخب الحزبية وطنيا، جهويا و محليا..
و الثاني، هو نهاية حقبة الثنائية الحزبية بين الحزب الاشتراكي PSOE و الحزب الشعبي PP، و بروز قوى أحزاب وطنيه على اليمين و على اليسار، بوديموس podemos, مواطنين ciudadanos, و بطبيعة الحال حزب اليمين المتطرف vox..
نهاية القطبية الحزبية، بالإضافة إلى إنزياح الأحزاب المناطقية، خصوصا في كتالونيا إلى مطالب أكثر تطرفا وصلت لحد الدعوة من جانب واحد للاستفتاء، لازالت إسبانيا تعيش على وقع تردداته، عقد الممارسة السياسية و ضرب إستفرارها في إسبانيا.
إذن الوضع السياسي الذي واجهه سانشيز هو غير مسبوق في التاريخ السياسي الحديث لإسبانيا، و بالرغم من ذلك إستطاع أن يصمد و يعقد تحالفات على الطريقة الأغريقية.. صعبة، مستحيلة لكن موجودة و مستمرة..
الحقيقة أن الاسبان شعب متضامن و منفتح و قريب من باقي الشعوب، و مواقف بعض من سياسييه لا تخرج عن ما يصلح عليه في أدبياتهم بالدين التاريخ la deuda histórica، أي الخروج من كوبا سنة 1898، ثم الرحيل عن الصحراء المغربية سنة 1975..
فإذا كانت قضية الصحراء المغربية لها ثمن إنتخابي في إسبانيا، فإن التحولات الكبرى، مثل الحرب الروسية الأوكرانية، والتطورات الجيوسياسية في الشرق الأوسط و العودة القوية للقضية الفلسطينية، ثم حاجة إسبانيا لشريك قوي داخل أفريقيا و رغبتها في حضور دولي أكبر سياسيا و إقتصاديا، يجعل أغلب الفاعلين السياسيين و الاقتصادية الاسبان يطمحون للعلاقات عادية سلسة، و من منظور رابح_رابح مع المغرب..
هذه الرغبة إنعكست في الترشيح المشترك لتنظيم كأس العالم و الإسهام في تحقيق حلم مغربي حان وقته.
برأيك، كيف ساهمت دبلوماسية اليسار المغربي في تعزيز مفاهيم الفكر الاشتراكي العالمي، خاصة خارج القواعد الإيديولوجية لصالح البوليساريو في بعض دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية؟
من المعلومات أن الجبهة الانفصالية كانت تقدم نفسها على اساس أنها حركة تحرر، إستفادت في لحظة ما من المد الكبير و من الدعم السخي لأنظمة رفعت شعار الحرية و العدالة و التحرر، فقط لتخضع شعوبها من جهة، و تركب في المعسكر الذي كانت تقوده الاتحاد السوفياتي.. هي أنظمة لم تستطع أن تصمد في موجه المتغيرات الدولية و انتهى بها الأمر إلى الزوال..
كذلك في دول أمريكا اللاتينية، التي سادت فيها أنظم دكتاتورية لعقود، و بعد سقوطها وجدت حركات التحرر موقعا لها في السلطة، و إختارت مساندة الطرح الانفصالي بدافع إيديولوجي، أكثر من سياسي..
في أفريقيا، الدعم التي حصلت عليها البوليساريو جاء أولا من الجزائر و ليبيا، ثم انتقل للمحور الانجلوسكسوني بالأساس و المتعلقة حول جنوب إفريقيا..
ما هي الأسس التي إنطلق منها الاشتراكيون المغاربة بمختلف اختلافاتهم وتوجهاتهم الإيديولوجية في دعمهم تعليمات جلالة الملك محمد السادس لدعم الوحدة الترابية للمملكة؟
الاتحاد كان و لازال يشتغل بمنطقة واحد و وحيد، جسده شعار المغرب أولا، و هو الدفاع عن سيادة المغرب التي يجددها جلالة الملك و وحدة أراضيه، و هو بذلك يساهم في إنزال التعاقد التاريخي بين المؤسسة الملكية و الشعب المغربي، لازلنا ضمن ما سطرته ثورة الملك و الشعب و التي هي ثورة متجددة لبناء المغرب الحديث، مغرب الديمقراطية و حقوق الانسان، مغرب الحداثة و الأصالة، مغرب يتسع لجميع أبنائه و يوفر لهم الكرامة و الحرية..
فيما يخص القضية الوطنية كنا دائما إلى جانب المؤسسة الملكية و مساهمين في تنزيل رؤيتها، حاملين هم الوطن و مدافعين و بشراسة و صدق على قضايانا العادلة.
في هذا المؤتمر، تطرقت كذلك إلى القضية الفلسطينية وحرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. كيف نظم هذا المؤتمر دعمه لفلسطين في بياناته ومواقفه وتوصياته؟
ما يجب أن يعلمه الكثيرون هو أن تواجد الاتحاد في الأممية الاشتراكية، بالإضافة الي إنتمائه إلى هاته الأسرة السياسية والاديولوجية، كان بطلب من الفلسطينيين أنفسهم.
ثانيا كان الاتحاد هو الحزب الذي احتضنت مقراته في أوروبا ولاسيما في فرنسا، أول تمثيليات لمنظمة التحرير الفلسطيني في الغرب أيام محمود الهمشري رحمه الله.
وظلت السردية الاسرائيلية، كما قلتم مهيمنة على هاته المنظمة وروافدها لاعتبارات سياسية وتاريخية كثيرة لا مجال للخوض فيها، مما جعل الاتحاد يدافع عن قضيتين في الأممية قضيته الوطنية الأولى الصحراء وقضيته الوطنية الثانية فلسطين.
وقد حضرت الوفود الفلسطينية إلى المنظمة، بقوة وكانت لها لقاءات مع قيادة الاتحاد قبل وإبان المؤتمر الشيء الذي ساعد على إسماع صوت فلسطين، بل كانت مواقف الأممية غير مسبوقة، لاسيما بعد مع ما عبر عنه رئيسها بيدرو سانشيز دوليا من مواقف متقدمة للغاية..
إن صوت فلسطين الآن هو صوت الاتحاد في أوروبا، و أفريقيا و أمريكا اللاتينية.
هذا يعيدنا إلى سؤال جوهري لماذا اليسار فقد بريقه في العالم العربي وعلى الرغم من التضحيات الكبيرة التي قدمها اليسار العربي في القضايا الوطنية والقومية، فإن نقدا شديدا ظل يوجه إلى مواقفه إزاء المسألة الفلسطينية بشكل خاص؟
يمكن القول إن اليسار العربي قد فقد جزءا من بريقه في العقود الأخيرة، ولكن ليس بشكل مطلق، بل نسبيا وفي سياقات معينة، وهذا التراجع يرتبط بعدة عوامل، منها التحولات الجيوسياسية، تصاعد التيارات المحافظة، وانحسار الخطابات الأيديولوجية التقليدية لصالح براغماتية سياسية واقتصادية فرضتها العولمة والواقع الإقليمي والدولي، ومع ذلك لا يعني هذا أن مشروع اليسار قد انتهى أو فقد ضرورته، فلا تزال المجتمعات العربية في حاجة إلى اليسار كتيار يعبر عن قيم العدالة الاجتماعية، الديمقراطية، وحقوق الإنسان، خاصة في ظل التفاوت الطبقي والاستبداد السياسي الذي تعاني منه بعض الدول.
أما فيما يخص القضية الفلسطينية، فهناك انتقادات حقيقية لمواقف بعض قوى اليسار، خصوصا في بعض الدول التي شهدت تحولات في علاقاتها الخارجية، ومع ذلك، يظل جزء كبير من اليسار العربي ثابتا في مواقفه المبدئية الداعمة لحقوق الشعب الفلسطيني، مما يؤكد أن اليسار، رغم كل الانتكاسات، لا يزال يحمل مشروعا تحرريا وإنسانيا يحتاجه العالم العربي أكثر من أي وقت مضى.
ما حقيقة مشاركة الوفد الإسرائيلي في المؤتمر الأممي في الرباط؟
مشاركة الوفد الإسرائيلي في المؤتمر الأممي في الرباط تأتي في سياق طبيعة الأممية الاشتراكية، التي تعتبر منظمة عالمية تضم أحزابا اشتراكية وديمقراطية اجتماعية من مختلف الدول، بما فيها حزب ميريدز الإسرائيلي، الذي يعد عضوا في هذه المنظمة، ووفقا للمعايير التنظيمية للأممية الاشتراكية، فإن جميع الأحزاب المنضوية تحت لوائها تتمتع بحقوق المشاركة في المؤتمرات والاجتماعات، بغض النظر عن مواقفها السياسية، وهو ما ينطبق على مشاركة الوفد الإسرائيلي، لذلك فإن حضوره لا يشكل إستثناء، بل يندرج في إطار التقاليد المتبعة داخل هذه المنظمة الدولية.
من جهة أخرى، لا يمكن بأي حال من الأحوال الربط بين هذه المشاركة وبين الموقف الرسمي للمغرب، حيث إن المؤتمر يعقد في إطار منظمة أممية مستقلة، وليس بصفة ثنائية أو بناء على قرار سيادي مغربي، وبالتالي فإن إستضافة المؤتمر في الرباط لا تعني بأي شكل من الأشكال تبني مواقف أو خيارات الأطراف المشاركة فيه.
أما على مستوى المواقف السياسية للحزب المستضيف، الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فقد ظل موقفه من القضية الفلسطينية ثابتا وواضحا في دعم حقوق الشعب الفلسطيني، وهو ما أكده الكاتب الأول للحزب، الأستاذ إدريس لشكر، خلال أشغال المؤتمر، حيث دعا إلى حماية الفلسطينيين من العدوان الإسرائيلي، وضرورة تمكينهم من حقوقهم المشروعة، مع التشديد على حل الدولتين كخيار عادل ومستدام لإنهاء النزاع.
بالإضافة الى ذلك، فإن الحضور الإسرائيلي لم يؤثر إطلاقا على طبيعة أو مضمون القرارات الصادرة عن المؤتمر، التي جاءت في معظمها داعمة للقضية الفلسطينية، ومن الجدير بالذكر أن الفلسطينيين كانوا ممثلين في المؤتمر بثلاثة وفود، ما عزز مكانتهم داخل النقاشات، وأسهم في إصدار قرارات تصب في مصلحتهم، وتؤكد عدالة قضيتهم.
ألا تعتقد أن اليسار المغربي بكل مكوناته وتوجهاته يعيش أزمة حقيقية على المستوى الإيديولوجي وكذلك التنظيمي الجامد؟
لا يمكن إختزال وضع اليسار المغربي في أزمة شاملة وعامة دون الأخذ بعين الاعتبار التنوع الداخلي لهذا التيار السياسي، فالتعميم في هذه المسألة قد يؤدي إلى قراءة غير دقيقة للمشهد السياسي المغربي، فصحيح أن بعض الأحزاب اليسارية عانت من جمود فكري وتنظيمي، وواجهت صعوبة في التكيف مع التحولات الاجتماعية والاقتصادية، مما أدى إلى تراجع تأثيرها وضعف حضورها الجماهيري، إلا أن هذا لا ينطبق على كافة مكونات اليسار.
في المقابل، هناك أحزاب تمكنت من الصمود والتطور، وإعادة تشكيل خطابها السياسي بما يتناسب مع التحديات الجديدة، مع الحفاظ على جوهر هويتها اليسارية، ومن أبرز هذه الأحزاب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي استطاع مواكبة التحولات الوطنية والدولية، عبر إعادة هيكلة ذاته وتجديد خطابه، ليظل حاضرا في النقاش السياسي الوطني ومؤثرا في صياغة السياسات العمومية، فالحزب لم يكتفِ بمجرد التكيف مع المستجدات، بل لعب دورا أساسيا في تأطير النقاش السياسي حول الديمقراطية الاجتماعية، العدالة الاجتماعية، وحقوق الإنسان، مما جعله أحد القوى اليسارية القليلة التي حافظت على موقعها في المشهد السياسي المغربي.
وهذا النجاح في إعادة التموضع والتكيف مع التحولات يظهر أن أزمة اليسار ليست حتمية، بل هي مرتبطة بقدرة كل تنظيم على تطوير أدواته، والانفتاح على المجتمع، وإنتاج خطاب سياسي متجدد يتفاعل مع الواقع، فالأحزاب اليسارية التي ظلت متمسكة بخطاب تقليدي جامد، بعيد عن تطلعات الأجيال الجديدة، فقدت الكثير من تأثيرها، بينما الأحزاب التي تبنت رؤية تقدمية مرنة دون المساس بثوبتها الفكرية، نجحت في البقاء فاعلة في المشهد السياسي.
في رأيك لماذا أصبحت أحزاب “يسارية” الإيديولوجيا و”ليبرالية” الممارسة إلى حد النفعية الضيقة؟
لا يمكن التعامل مع فكرة أن الأحزاب اليسارية أصبحت ليبيرالية في الممارسة كحقيقة مطلقة تنطبق على جميع الأحزاب، فالأمر نسبي ومتفاوت حسب كل تجربة سياسية على حدة، صحيح أن بعض الأحزاب التي كانت تتبنى خطابا يساريا جذريا قد شهدت تحولا في ممارساتها السياسية، بحيث أصبحت أقرب إلى نهج ليبرالي براغماتي، متأثرة بمتغيرات الواقع السياسي والاقتصادي، إلا أن هذا لا يعني أن جميع الأحزاب اليسارية سقطت في هذا التناقض.
وعلى كل حال يمكن تفسير هذا التحول من عدة زوايا، أبرزها التكيف مع التحولات الاقتصادية العالمية، حيث إنه في ظل تصاعد الاقتصاد النيوليبرالي على المستوى الدولي، وجدت بعض الأحزاب اليسارية نفسها مضطرة إلى التكيف مع منطق السوق الحر، وتبني سياسات اقتصادية أكثر مرونة، خاصة عندما اضطرت إلى المشاركة في تدبير الشأن العام، ومع ذلك فإن هذا التكيف لم يكن بالضرورة تنازلا عن الهوية اليسارية، بل كان محاولة للتوفيق بين المبادئ الاشتراكية ومتطلبات الاقتصاد المعاصر.
من جهة أخرى، حينما تنتقل الأحزاب اليسارية من موقع المعارضة إلى موقع المسؤولية الحكومية، تجد نفسها أمام إكراهات الواقع السياسي والاقتصادي، مما يجعلها تتخذ قرارات تبدو أقرب إلى الليبرالية من الناحية العملية، حتى لو كانت تحاول الحفاظ على روح العدالة الاجتماعية والمساواة، وفي بعض الحالات أدت هذه التوجهات إلى تراجع البعد الأيديولوجي لصالح نهج براغماتي يهدف إلى تحقيق الاستقرار والاستمرارية.
كما أن ضعف القواعد الجماهيرية التقليدية لليسار ساهم في هذا التحول، حيث إن اليسار كان تاريخيا يعتمد على الطبقة العاملة والفئات الشعبية كأساس لقوته السياسية، لكن مع تغير البنية الاقتصادية والاجتماعية، وتراجع دور النقابات، وانفتاح الشباب على أنماط جديدة من الاحتجاج والعمل السياسي، وجدت بعض الأحزاب اليسارية نفسها أمام تحدي إعادة بناء قواعدها الاجتماعية، مما دفعها إلى تغيير خطابها وممارساتها لمحاولة البقاء في المشهد السياسي.
في هذا السياق، يجب التمييز بين الأحزاب التي تبنت هذا التحول عن قناعة، وبين الأحزاب التي ظلت محافظة على هويتها اليسارية رغم بعض التحولات في ممارساتها السياسية، وعلى سبيل المثال نجد أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية ظل متمسكا بمبادئه الأساسية رغم تأقلمه مع متطلبات المرحلة، وظل مدافعا عن العدالة الاجتماعية، الحريات، وحقوق الإنسان، لذلك ليس من الدقيق الحديث عن فقدان شامل لهوية اليسار، بل إن المشهد أكثر تعقيدا، ويعكس تفاوتات في قدرة كل حزب على التكيف دون المساس بجوهر توجهه الأيديولوجي.