لا زلت أشكّ في مقدرة من يستشرف المستقبل دون وعي بالتراكم الكمومي، ودون استيعاب مفارقة النفق الكمومي، باختصار: دون تجاوز النسبية الخاصة نفسها في فهم الزّمن والحركة الجوهرية، ليس من حيث مقاربتها من منظور الميكانيكا الكلاسيكية، بل من حيث مقاربتها الكمومية، كنظام كامن في صميم الفوضى، في تخاطب ما دقّ وخفي كموميا، في الحركة التي يصعب التنبؤ باتجاهها، بسرعتها، بمفارقتها لسبب بسيط، هو أنّنا عاجزون عن قياسها، لأنّ أي قياس أو رقابة يجعلها تنفلت منا تفقد مسارها وتغير سلوكها.
إنّ حقل السياسة، ولتداخل إشاراته وتموجاته، ولتعقيد واقعه ككل الوقائع والظواهر الأخرى، هو حقل عصيّ عن الاستشراف بالمعنى الحاسم للعبارة. يصبح المستقبل في السياسة كما في عالم الفوتون، هو نفسه متحكّما في ما كان من حوادث، برسم السببية الرجعية، حيث انتظاراتنا وتوقعاتنا هي في الحقيقة من أثّر في وقائع الماضي نفسه.
اقرأ مستقبلك في ماضيك، ففي وقائع التّاريخ أحيانا تتساوى الأزمنة نفسها ويفقد الزمن وجهته الكرونولوجية، يفقد مقداره، تصبح فكرة السفر في الزمن هي نفسها ما يؤكد على ثبوت التخاطب والتأثير بين الوقائع من حيث هي إمكانيات متحايثة في عوالم تحتويها في ضوء رؤية احتمالية، هي نفسها ما يجعلنا كموميا نمنح الاحتمال دورا خلاقا أكثر من القياس، لما سبق من تأكيدنا على بؤس القياس في الواقع شديد الاحتمال، واقع غير قياسي، ولأنّنا أيضا نعتبر القياس فيما دقّ من ظواهر هو حاجب ومانع من قياس الظاهرة: قياس بلا قياس، فكيف نقيس وقد عزّ أن نقيس، أي أن معاينة الظاهرة مؤثّر في وجهتها.
الأمر يتعلق بقرارت ذهننا الذي له تأثير على سير الظاهرات، ندرك ذلك من خلال نظرية الأوتار الفائقة (Superstring theory)، ما يجعل الواقع غير واقعي والزمن غير زمني، بتعبير أدق، إنّ العقل، ذلك العقل الذي يمدنا بالإشارات الممكنة، ذلك الكون الذي نخلقه ولسنا مجرد جُسَيْم ثاوي في مداراته، هو الذي فيه انطوى العالم الأكبر.
إنّ الخوف من الاحتمال حالة سيكولوجية تجعل حرفة التّنبُّؤ تعاند في إحراز الموقف الحاسم، وهي بذلك تحجب غِنى الواقع الذي نساهم في إنجازه، في المستقبل الذي يسبق الماضي في انقلاب في نظام العلّة والمعلول.
إنّ تداخل الموجات وتلاقح القيم في وعينا نفسه، يجعنا أمام تدفق هائل من الاحتمالات التي يجب أن يتعايش معها عقل ، هو في مرتبة حدسنا العظيم يكون قابلا ومتعايشا مع تلك النقائض الحميدة للظاهرات، حميدة لأنّ الحكم عليها بالنقيضة هو حكم مبني على قواعد ما قبل اكتشاف الحقل الكمومي، ولكنها في الحقيقة عبقرية الحدس الذي يجعلنا نستوعب أنّ الحركة هي أوّلا جوهرية..
ثانيا أنّ كمالها لا يتمّ إلاّ بهذه التراكمات الكمومية، بهذا التخاطب بين فتونات العالم الكمومي السفلي وأثره على النظام الكوني، حيث يكمن نظامه في فوضاه، حركة تكاملية منفتحة على كل الاحتمالات وتساكن الممكنات وتصالحها في حالة من الوصل والفصل بين العوالم بناء على قراراتنا، حيث أمام كل ظاهرة تتفرّع احتمالات أخرى في كوننا العجيب والمتشعب الذي نربض على مساحة منه، هي المساحة المغفّلة والأكثر غباء، حيث لا زلنا كائنات تزهوا بجهلها المزمن، بقياساتها التبسيطية لكون معقّد.
إنّني أذكر كل مرة بأننا مدينون لحدسنا العظيم، هو الذي قادنا عبر كفاح مرير مع هذا التدفق الاحتمال للحياة، كان فيه الإنسان المجرد والأعزل من مكتسبات الثورات العلمية وتقنيتها، في حالة صمود بقوة الحدس وساحريته، حيث به اهتدى إلى كل تلك الفرضيات المدهشة.
صحيح أنّنا كائنات مزودة بعقل، لكننا عاجزون عن معرفة مداه. إن ما يحصل في كوننا المادي ووعينا بالظاهرات، يحصل في كوننا السياسي ووعينا بظاهراته.
إنّ الزّهو بمقارباتنا واستشرافاتنا للوقائع السياسية، سيكون سببا في هروب الواقع منا، في تغيير الحركة الجوهرية وجهتها متى استشرفنا وجهتها بما تشتهيه نزعتنا لتبسيط العالم وتبسيط الوعي به. حين لا يستوعب الوعي مهمّته داخل موجات الاحتمال، سيظلّ عرضة لتضليل المقاربة القياسية.
إنّ تكوين دماغنا يجعله عملية أشبه بالدحض المستدام، عبر تفاعل العصبونات المليارية النشطة، يعمل على تصحيح أخطائه. الصحيح إذن في كوننا الذّهني هو ما تمّ تصحيحه. الكائن في أول بروفة للنشاط الذهني هو خطّاء، ودور الدماغ هو تصحيح الخطأ، لا بدّ أن يعبر الصواب الخطأ أوّلا. وهذا ما يعزز عندي فكرة الدحض ونظرية التكذيب، منذ المدرسة الكلامية العدلية(المخطّئة) إلى كارل بوبر، حيث إعادة اختبار نظرياتنا بل فرضيتنا هو الطريق الأضبط نحو العلم: فالنظرية العلمية لا تكون علمية حتى تكون قابلة للدّحض.
نحن متعايشون مع جهلنا، مستسلمون لدعتنا وخوفنا من الاحتمال، فهو يزعج هذا السكون الخادع، لكائنات تعيش في عالم الإمكان لكنها تكفر بالإمكان. ومثل هذا يحدث في تصوراتنا وتوقعاتنا وتشخيصنا الذي يُظهر إلى أي حدّ أصبح تفكيرنا منهمكا في إعادة إنتاج وضعيتنا.
يتكرر وجودنا، وتتكرر معه فكرتنا عنه، بوصفه الأفق النّهائي لخبرتنا، فقدان الشجاعة، أي الجبن في اقتحام العقبة المعرفية، وكل أشكال العقات التي يفرزها جهلنا بالظاهرات واستسلامنا لهذا الاسترسال في إعادة إنتاج جهلنا، مما يجعله جهلا مركّبا مضاعفا ومزمنا، في انقيادنا لهذا التكرار المزمن الذي تُتقنه قردتنا في البراري وفي “السيرك”، فالثورة المعرفية الكبرى لا زالت خجولة في عالم يحرس جهله وفق تقنيات بيداغوجيا الجهل التّعلُّمي، مدينة الجهل المحروسة، ستصبح اللغة نفسها والناطقية عموما صفة خادعة، لأنّنا سننطق بما من شأنه أن يجعلنا الكائنات الوحيدة العصية عن التعريف.
إنّ القفز على الصواب والحسم فيه من دون مسيرة الألف ميل داخل حقل ألغام كون غارق في الاحتمال، يجعل معارفنا رخوة، ويجعل من تموجدنا في العالم والمصير تموجدا مبتورا ومحاطا بجهل مُركّب، وهو الجهل الذي به نحيا، به يتحدد مستقبلنا وحاضرنا وماضينا، لأنّ مصير ماضينا نفسه نحن من يحدده وليس غيرنا، جميعا شركاء في مصير كوننا، لأننا شركاء في القرارات المصيرية، في هذا التهامس الفتوني المعقد، نحن نجهل حتى أنّنا بجهلنا هذا مؤثرون في العوالم الممكنة…