فيصل مرجاني
في عالم يزداد تعقيدًا بسبب تصاعد النزاعات الدينية والصراعات الثقافية، يبرز النموذج المغربي كإطار متماسك قادر على تحقيق التوازن بين الحرية الدينية، والتعايش السلمي، والأمن الروحي.
يستند هذا النموذج إلى مؤسسة إمارة المؤمنين التي تلعب دورًا حاسمًا في تأطير الحقل الديني، ليس فقط داخل المغرب، بل على امتداد مناطق واسعة من إفريقيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية.
يقوم هذا النموذج على رؤية استراتيجية ذكية تجمع بين التأصيل الديني والواقعية السياسية، وبين القيم الكونية والخصوصيات الوطنية، وبين الروحانية العميقة والعقلانية السياسية، مما يجعله نموذجًا مرجعيًا تتبناه دول عديدة تبحث عن حلول ناجعة لإدارة التعددية الدينية وتعزيز العيش المشترك.
يشكل الأمن الروحي أحد الأعمدة المركزية في هذا النموذج، حيث لا يقتصر على ضبط المجال الديني أمنيًا، بل يعتمد على بنية فكرية واجتماعية تُنتج انسجامًا داخليًا يحصّن المجتمع من الاختراقات الإيديولوجية، ويمنحه القدرة على العيش المشترك دون انقسامات طائفية أو نزاعات دينية.
مؤسسة إمارة المؤمنين تضطلع بدور أساسي في هذا المجال، من خلال تأطير العلماء والخطباء لمنع الفوضى الفقهية التي قد تؤدي إلى تأويلات متطرفة، وتعزيز الإسلام الوسطي عبر المذهب المالكي، والعقيدة الأشعرية، والتصوف السني، وهي مكونات تكرّس النزعة العقلانية، وتضمن فصل الدين عن الأيديولوجيات المتطرفة. هذه الاستراتيجية لا تهدف فقط إلى حماية المغرب من التطرف، بل تسعى إلى تقديم نموذج مستدام يمكن تعميمه في مناطق أخرى تعاني من التوترات الدينية والطائفية.
يتجسد هذا النموذج في سياسات عملية تعكس التزام المغرب بالتسامح والتعايش كقيم أساسية، بعيدًا عن الخطابات النظرية المجردة.
فحرية ممارسة الشعائر الدينية ليست مجرد نص دستوري، بل هي ممارسة ملموسة، حيث يجد اليهود والمسيحيون والمسلمون وغيرهم فضاءً يضمن لهم العيش المشترك في إطار يحترم هويتهم الروحية. بل أكثر من ذلك، انخرط المغرب في مشاريع غير مسبوقة لترميم المعابد اليهودية والكنائس المسيحية، تأكيدًا على استمرارية التعددية الدينية في نسيجه الحضاري.
كما أن تأسيس معهد محمد السادس لتكوين الأئمة والمرشدين والمرشدات يمثل خطوة استراتيجية تترجم رؤية الدولة في إنتاج خطاب ديني متزن قادر على مواجهة المدّ الطائفي، وتأهيل أئمة ينسجمون مع متطلبات مجتمعاتهم دون الوقوع في براثن التطرف.
هذا النهج جعل المغرب واحدًا من أكثر الدول استقرارًا دينيًا في المنطقة، في وقت تعاني فيه دول مجاورة من انقسامات حادة بسبب غياب استراتيجية واضحة في تدبير التعدد الديني.
لكن الأثر الإقليمي والدولي للنموذج المغربي يتجاوز حدوده الوطنية، حيث أصبح هذا النموذج مرجعًا للعديد من الدول التي تواجه تحديات مرتبطة بإدارة الشأن الديني. في إفريقيا، تبنّت عدة دول مثل السنغال ومالي وتشاد منهج المغرب في تأطير الحقل الديني، من خلال إرسال طلبتها إلى معهد محمد السادس لتكوين الأئمة، وعبر إبرام اتفاقيات للتعاون الديني.
أما في أوروبا، فقد وجدت دول مثل فرنسا وإسبانيا وبلجيكا في التجربة المغربية نموذجًا عمليًا يمكن أن يساعدها على إدماج المسلمين بطريقة تحترم قيمهم الدينية وتنسجم مع المبادئ الديمقراطية.
أما في أمريكا اللاتينية، فقد بدأ المغرب في بناء علاقات دينية وثقافية مع دول مثل البرازيل والأرجنتين، مستندًا إلى الدبلوماسية الروحية التي تروّج للإسلام باعتباره قوة للسلام والتعايش، وليس أداة للصراع والهيمنة.
في هذا السياق، برزت الدبلوماسية الدينية كإحدى أدوات القوة الناعمة للمغرب، حيث لم يعد الخطاب الديني مقتصرًا على الداخل، بل تحول إلى عنصر أساسي في استراتيجيته الخارجية. فالمغرب لا يفرض رؤيته الدينية على الدول الأخرى، بل يقدّم نموذجًا اختياريًا يمكن الاستفادة منه، مما يجعل دبلوماسيته الروحية أكثر تأثيرًا وفعالية.
ولعل مشاركته الفعالة في المؤتمرات العالمية لحوار الأديان والتصدي للتطرف، واستضافته المنتظمة لاجتماعات قادة الأديان والفكر من مختلف أنحاء العالم، خير دليل على أن المغرب بات فاعلًا رئيسيًا في إنتاج خطاب ديني عالمي متزن.
كما أن تعاونه مع منظمات دولية مثل اليونسكو والأمم المتحدة في مبادرات تهدف إلى مكافحة التطرف يعزز مكانته كقوة دينية وروحية لها تأثيرها الإيجابي في الساحة الدولية.
ما يجعل هذا النموذج متفردًا ليس فقط عمقه التاريخي، بل أيضًا ذكاؤه البراغماتي، حيث يتعامل مع الدين كمسألة روحية توفر الطمأنينة والسكينة، وليس كأداة سياسية أو وسيلة للهيمنة. في ظل عالم يشهد تصاعد الأيديولوجيات الإقصائية والخطابات المتطرفة، نجح المغرب في تحويل إمارة المؤمنين من مؤسسة دينية محلية إلى مرجعية دولية في تدبير الشأن الديني والتعددية الثقافية، ما جعله نموذجًا يُحتذى به.
فبينما تعاني دول أخرى من أزمات دينية متكررة بسبب تأطيرها غير المتوازن للمجال الديني، يبرهن النموذج المغربي على أن الدين، عندما يُدار بحكمة وذكاء، يمكن أن يكون عامل وحدة وليس عامل فرقة، قوة سلام وليس أداة صراع، ومصدرًا للأمن الروحي وليس وقودًا للأيديولوجيات المتطرفة.
أثبت المغرب، من خلال مؤسسة إمارة المؤمنين، أنه قادر على تقديم نموذج متوازن يجمع بين الأصالة والتحديث، بين الهوية الوطنية والقيم الكونية، بين التدين الحر والعيش المشترك. وقد جعلته هذه السياسة نموذجًا يُحتذى به دوليًا، حيث أصبح مرجعًا في إدارة الشأن الديني والتعددية الثقافية، في وقتٍ يحتاج فيه العالم إلى رؤى جديدة تقوم على الحوار والتعايش بدل التصادم والتنافر.
التجربة المغربية ليست مجرد تجربة محلية، بل مشروع حضاري عالمي يساهم في نشر ثقافة الحوار والسلام، ويمنح الدين دوره الحقيقي كوسيلة للتقارب لا للصراع، وهو ما يجعل منه نموذجًا يستحق الدراسة والتبني في مختلف السياقات الدولية.