فيصل مرجاني
إن التصريحات الأخيرة للرئيس الجزائري حول إمكانية التطبيع مع دولة إسرائيل تكشف عن ضيق أفق استراتيجي وعجز بنيوي عن إدراك التحولات العميقة التي طرأت على المشهد الجيوسياسي الإقليمي والدولي.
حيث إن، الترويج لمقولة أن إسرائيل قد تكون معنية بتطبيع علاقاتها مع الجزائر يعكس استلابًا فكريًا حبيس سرديات بالية، وانحباسًا داخل منطق الدولة الريعية التي تعتقد أن موقعها الرمزي يكفي لمنحها أهمية جيوسياسية غير مستحقة، فالواقع أن الجزائر، من منظور المصالح الإسرائيلية ومن زاوية الرؤية الاستراتيجية اليهودية العالمية، لا تمثل إلا حالة تاريخية سوداء، بوصفها الدولة التي ارتكبت واحدة من أكبر عمليات الطرد الجماعي والتطهير العرقي بحق اليهود في العصر الحديث، وصادرت ممتلكاتهم، وأبادت حضورهم الثقافي، ومارست ضدهم سياسة الإقصاء المؤسسي الممنهج.
فالوجود اليهودي في الجزائر لم يكن هامشيًا، بل كان جزءًا بنيويًا من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للمنطقة، ممتدًا عبر قرون طويلة، من العهد الروماني إلى الدولة العثمانية ثم الحقبة الاستعمارية الفرنسية.
لكن مع اندلاع حرب الاستقلال وصعود القومية الجزائرية في نسختها الراديكالية، تحولت الجالية اليهودية إلى ضحية لمنظومة إقصائية لم تفرق بين اليهود والفرنسيين، واعتبرت الجميع امتدادًا للاستعمار، وبعد مرحلة الاستقلال، شرعت الدولة الجزائرية في عملية استئصال منهجي ليهود الجزائر، من خلال نهب ممتلكاتهم، وتأميم دور عبادتهم، وتفكيك وجودهم الاجتماعي بالكامل، في خرق فج وعميق لكل المبادئ القانونية والأعراف الدولية المتعلقة بحقوق الأقليات والشعوب الأصلية.
وبناءً على هذا السجل التاريخي المثقل بالمظالم، نجد بأن الحديث عن إمكانية التطبيع بين الجزائر وإسرائيل لا يمكن أن يتم دون المرور عبر محطة الاعتراف العلني بهذه الجرائم، والقيام بمراجعة جذرية للعقيدة السياسية الجزائرية التي قامت على الإنكار والتزييف والتوظيف الإيديولوجي الرخيص لقضية اليهود.
وعليه، فالدولة الجزائرية مطالبة بتقديم اعتذار رسمي ليهود الجزائر، وإعادة النظر في التشريعات التي شرعنت الاستيلاء على ممتلكاتهم، وفتح قنوات تواصل حقيقية مع ممثلي الجالية اليهودية بالخارج، ضمن مقاربة تصالحية جادة تستند إلى أسس العدالة التاريخية وليس إلى المناورات الدبلوماسية الفارغة.
أما من ناحية المصالح الإسرائيلية، فالجزائر لا تشكل فاعلًا مؤثرًا في معادلة التطبيع، ولا تحظى بأي قيمة استراتيجية يمكن أن تجعل من علاقاتها مع تل أبيب مسألة ذات أولوية.
بحيث أنه، من الناحية الجيوسياسية، تفتقد الجزائر إلى وزن في النظام الإقليمي، بحيث تظل دولة معزولة، متقوقعة على ذاتها، غير قادرة على إنتاج سياسة خارجية عقلانية ومتوازنة. أما من الناحية الاقتصادية، فالاقتصاد الجزائري يعاني من هشاشة بنيوية ناتجة عن نموذج ريعي متآكل، يعتمد على عائدات المحروقات دون أي قدرة على تنويع موارده أو تطوير قطاعاته الإنتاجية، ومن الناحية العسكرية، فالنظام الجزائري مرهون بعقيدة أمنية متقادمة، تقوم على عداء ميكانيكي لإسرائيل دون امتلاك أي قدرة فعلية على ممارسة أي تأثير في معادلات الردع الإقليمي.
إن التحولات الكبرى التي يشهدها النظام الدولي تفرض على الدول إعادة تعريف مصالحها بعيدًا عن العنتريات الإيديولوجية والمزايدات الشعبوية.
ودول العالم العربي التي انخرطت في مسار التطبيع مع إسرائيل لم تفعل ذلك انصياعًا لإملاءات خارجية، كما يدّعي الخطاب الجزائري، بل بدافع من رؤية استراتيجية تدرك أن الانخراط في المنظومة التكنولوجية والاقتصادية والأمنية الإسرائيلية يمثل خيارًا عقلانيًا ينسجم مع معطيات الواقع.
أما بخصوص الجزائر، التي لا تزال أسيرة عقلية الستينيات، فهي تواصل الانغلاق على ذاتها، وتصر على البقاء خارج سياق التاريخ، محكومة بنظام يعاني من فقر فكري وهشاشة في الرؤية، ويعتمد على خطاب خشبي لم يعد له صدى حتى داخل الرأي العام المحلي.
وغني عن البيان، بأن العالم لا ينتظر الجزائر، وإسرائيل ليست في حاجة إلى علاقات مع نظام سياسي يفتقد إلى الشرعية الداخلية، ويعتمد على الشعارات الفارغة لتغطية عجزه عن تحقيق التنمية والاستقرار.
وإذا كان الرئيس الجزائري يعتقد أن بإمكانه المساومة على ورقة التطبيع كأداة ضغط أو مكسب دبلوماسي، فإنه واهم، لأن إسرائيل لا تعترف إلا بالمصالح الحقيقية، وليس بالمزايدات السياسية التي لا تملك أي سند في الواقع.
وبالتالي، فالجزائر مطالبة أولًا بمراجعة نفسها، بتفكيك بنيتها الذهنية المتصلبة، وبالاعتراف بمسؤوليتها عن الظلم التاريخي الذي ألحقته بيهودها، قبل أن تطمح إلى أي تقارب مع إسرائيل أو مع غيرها من الدول التي اختارت الخروج من مستنقع الإيديولوجيات المتكلسة إلى فضاء المصالح الفعلية.