منذ أوّل نزوح ومن غروب الأمس حتى طُلوع الرّوح ونحن في كوكب غزّة نتلهّف لسماع: الساعة الآن الفاتحة بتوقيت الهدنه.. غزّة بدون.. أباتشي بدون إف16 بدون زنانات بدون انفجارات.. بدون أشلاء.. بدون دماء.. بدون جروح من دون نزوح ومن دون احتلال.. كل الفضائيات والراديوهات والمذيعين والمذيعات يبلغون الغزييّن بسقوط الموت.. وسقوط الرعب والحرب..!
ثمة شيء لا يمكن كتابته ولا حتى تصويره بكاميرات 4K.. ثمة قشعريرة.. ثمة ارتباك.. ثمة ترقّب.. ثمّة خوف.. ثمة قلق.. ثمة حزن وثمة فرح.. ثمة مشاعرة أنا وكل الكتاب وكل الشعراء لن يجيدوا اختيار الكلمة المناسبة، لذلك سأكتفي بالقول: نحن ممتلئين بالألم وممتلئين بالأمل..!
وإذا ثبت هلال الهدنة، سنأوي إلى ما تبقى من أشلاء بيوتنا.. سنأوي إلى ركامنا إلى حُطامنا الى خيامنا.. سنأوي إلى أحزاننا إلى أوجاعنا وإلى ما تبقى من رائحة ثياب أولادنا وأصدقائنا وأمهاتنا وآبائنا وأزواجنا وزوجاتنا وجداتنا وأحفادنا.. سنساعدُ أَنفسنا على تحمُّل أنفسنا، سندفن أحبتنا ونكرم عزاءَهُم.. نترحم عليهم ونشم رائحتهم ونَطبعُ صورَهُم وَشمَاً في الذاكرة..! سنصغي الى وجع الأحياء وروايات الشهداء.. فلقد حَرَمتنا الحرب من أن نموت بطريقه آدميه، حرمتنا من إكرام الميت دفنُه’ من جلسة القبر والشاهد على المجازر، من أن يتهامس القريب مع القريب ويُحَدِّثُه عن مناقب الفقيد، غَيَّبَت صوت عبد الباسط في خلفية العزاء وما تيسَّر من تمتمات بعد الغداء..!
حتى الآن يبحثون عن الأشلاء وحسب ما علمت من جثة تتحرك بجانبي فقد وجدوا بعض أعضائي الحساسة ووضعوها في كرتونة فارغة من كراتين المساعدات ومازال البحث جارياً عن أصابع يدي اليُمنى يبدو أنها تمكنت من الخروج من تحت الأنقاض بحثاً عن ورقة وقلم لكتابة وتدوين ما حدث.. سنكتب الأماني ونكتب الأغاني..
هيني هون
لسا بإيدي ماسك قلم
لسا فقلبي شايل ألم
لسا الوطن بأول سطر
ولسه إحنا بأوّل السطر..!
سنوات ونحن نتحرى الهلال من النهر إلى البحر إلى حيفا إلى يافا إلى عكا.. سنوات ونحن نتحرّى وحدة الضفّة مع غزّة.. سنوات ونحن نتحرّى هلال الاستقلال وهلال قيام الدولة.. وها نحن الآن نتحرّى هلال الحرية.. والعودة إلى شمال قطاع غزة!
الفرحة كاملة بس.. في كراسي ناقصه، في صحون ناقصه، في معالق ناقصه، في كاسات ناقصه، في ضحكات ناقصه، في عيله ناقصه، ناس هاجروا.. ناس تبخّروا.. ناس تحت الأنقاض.. وناس فوق الأنقاض.. ونبضات قلوبنا تدوّي في كافة أرجاء فلسطين..!
وأسوأ ما في اتفاق وقف إطلاق النار عدم وجود ضمانات بـ ‘أن لا يموت فلان متأخراً بجراحه!’
الناس تتسابق الآن على الحياة.. الموت ينافسها على لقب البقاء.. وسائل التواصل الاجتماعي تطلب من المواطنين أخذ اقصى درجات الحيطة والحذر.. خطوط الهواتف مشغوله جداً العائلات تطمئن على بعضها الحيّ.. عذراً الوطن الذي تحاول الاتصال به مُغلق حالياً!
سنعود لغزّة وتعود فلسطين ونكمل رواية القدس والضفة الغربية.. إن كان في العقل والعمر بقيّه..!
قطاع غزة – فلسطين المحتلة