آراءسياسة
أخر الأخبار

الشرع.. البحث عن نقطة توازن

يعتمد الشرع فلسفة "خير الكلام ما قلّ ودلّ". وهو في إجاباته على أسئلة اليوم الداهمة ينتقي عباراته بتأنٍ ونضج..

إذا ما يضرب أحمد الشرع، قائد الإدارة الحالية في سوريا، موعدا بعد أربع سنوات لإجراء انتخابات في البلاد، فإنه في الوقت عينه يسعى لتلمس معالم تلك السنوات لإعادة بناء البلد في السياسة والقانون والأمن والاقتصاد.

ولئن تبدو أمور تلك السنوات غامضة المسار، فإن ذلك عائد أيضا، وفق ما يتحدث به منذ سقوط النظام السابق، وما تحدث به في مقابله الأخيرة على قناة العربية، إلى أن سوريا عاد بلدا شديد الأهمية، للسوريين طبعا، ولعواصم قريبة جدا وبعيدة جدا أيضا، على نحو يفسّر دقّة مواقفه وحساسيتها.

يعتمد الشرع فلسفة “خير الكلام ما قلّ ودلّ”. وهو في إجاباته على أسئلة اليوم الداهمة ينتقي عباراته بتأنٍ ونضج، إلى درجة اتهامه بتقصّد البلاغة في القول من دون ضمانات في العمل. والرجل في ذلك التمرين، يخاطب الشعب السوري مدركاً لهواجس تنتاب، للمفارقة، الأغلبية والأقلية على السواء، وتطالبه بتقديم وجبات طمأنينة شاملة كاملة لم تهتد إليها يوما كبريات الديمقراطيات في العالم.

وهو يخاطب الرأي العام الإقليمي والدولي الذي لا ينظر للوضع السوري الجديد بعين واحدة ولا يريد من دمشق الجديدة المتطلبات نفسها.

وفيما تروج الأصوات المطالبة، بمستويات وأجندات مختلفة، بخطاب واضح بشأن الديمقراطية والتمثيل والحقوق والهوية، فإن الشرع يرتب الأولويات بنسق مختلف. صحيح أنه يعمل على عقد مؤتمر الحوار الوطني، وصحيح أنه وعد بإعلان حلّ “هيئة تحرير الشام” خلاله، غير أن أمر هذا المؤتمر هو تفصيل من ضمن تفاصيل أخرى تعبد السنوات الأربع المقبلة، بحيث قد تصبح هذه الورشة هامشا من هوامش عديدة في رحلة التعافي السوري الموعود.

في رسائل الشرع ما يستجيب تدريجيا لشروط خارجية عاجلته منذ اللحظات الأولى لظهوره في دمشق. أظهر مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمجموعة العربية قواعد ومبادئ تطالب “سوريا الجديدة” باحترامها.

لكن ما حمله الموفدون إلى دمشق وما حفلت به الاتصالات مع دمشق كشفت طبيعة الهواجس، وحقيقة ما هو مطلوب فعلا بغضّ النظر عن نصوص البيانات الدولية وديباجاتها.

ولئن أجاد الشرع توجيه الأنظار باتجاه تقادم القرار الأممي 2245 والعقوبات الأميركية على سوريا، فإنه في الوقت عينه استخدم لغة التعاون والمرونة القائمة على استدراج تفاهمات جديدة لا يبدو أن المجتمع الدولي بعيدا عنها.

يتحصّن الشرع جيدا بفشل بلدان “الربيع العربي” وما قبله للتخلّص من قواعد عمل تمّ استحداثها ويُراد لها أن تكون خريطة طريق تقليدية.

لا يقبل الرجل بالمحاصصة على الطريقة العراقية، وهو أمر أيده به رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني ونصحه بعدم اعتماده.

غير أن في مثاليات الشرع في فهمه لسوريا وشعبها، يبدو نابذا لفكرة الطوائف، مبشرا بفكرة المواطنة التي لا تبدو بالبساطة التي يتوسّلها. فالناس “شعوب وقبائل” بالمعنى القرآني وأن من سنّة الحياة التعارف وفق هذه الهويات والحقائق. وإذا ما تطمح الانسانية إلى المساواة الكاملة، فإن الأمر لا يتم إلا بالاعتراف بالخصوصيات والتعامل الحسن معها.

يبدو منطقيا أن يستعين الشرع، في فترة انتقالية بـ “الفريق المنسجم”، خصوصا في مرحلة تحتاج فيها البلاد إلى إنفاذ قرارات لا تحتمل نقاشا معقّدا يمرّ عبر هياكل معقّدة. غير أن مرحلة الحوار الوطني، ومن دون الدخول في عملية اختيار هوية المتحاورين، لا بد أن توسّع من مساحة تعارف السوريين وتتيح شراكات جديدة تتجاوز صيغة الفريق الواحد. والمسألة قد تبدو ضرورة لتحصين القاعدة التي تقوم عليها شرعية الوضع الجديد، لكنها ضرورة أيضا للشرع نفسه وفريقه للدخول إلى سوريا من بوابات جديدة غير تلك التي فتحتها تجربة إدلب على الوطن السوري الكبير.

لكن الأهم في هواجس الشرع وأولوياته هي معيشة الناس والصحة الاقتصادية للبلد. يمتلك الرجل معطيّات داعمة لسوريا في القريب العاجل أتاحت له الكشف عن ورشة تستغرق عاما فقط ليشعر السوريون بتحسّن لافت في ما يحتاجونه من بنى تحتية عاجلة. لكن الرجل يتطلّع إلى احتضان عربي ودولي يوفّر بيئة لتعافي كل القطاعات الاقتصادية جاذبة لعودة الرساميل.

وفي ما يبعثه من رسائل إلى المحيط العربي ما يُراد به الاستجابة إلى ما خرج من بين سطور اجتماع لجنة الاتصال العربية بشأن سوريا في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأول، أي بعد 7 أيام على سقوط نظام الأسد.

تبدو استجابة العواصم العربية للمستجد السوري ذات سرعات مختلفة لكنها جميعها تراقب بدقّة، وربما بتوتّر يوميات ما بعد السقوط. غير أن الشرع يلاقي تلك السرعات بهدوء، متفهّما تحفّظات، بعضها قاسٍ في رسائلها.

يعرف أن المنطقة عانت من أفكار وعقائد وسلوكيات ولا تريد أن ترى انتعاشا لبعض جماعاتها من دمشق.

يعرف أيضا أن دمشق الجديدة باتت محطّ أنظار بعد سنوات شاحت عنها كل الأنظار.

يعرف أيضا أنه حين يقول إن حراك السوريين وفّر أمان كل المنطقة للخمسين عاما المقبلة، فهذا يعني أيضا أن أي خطأ في التقدير بإمكانه أيضا أن يقضّ مضجع المنطقة للخمسين عاما المقبلة.

الواقع أن العالم بأجمعه، بعربه وعجمه، يريد، قبل الديمقراطية والتمثيل والحقوق وكل قيّم الحداثة المعاصرة، استقرارا في سوريا وإمساكا بوضع البلد في الأمن والسياسة والخطاب.

يحتاج الشرع من أجل ذلك فريقه أولا، لكنه سيحتاج لاحقا إلى الاستقواء بهياكل دولة توفّر أولا ثم أولا عوامل الاستقرار. وهذا الهدف السامي الذي تخفيه أبجديات مواقف الخارج، يتطلّب أيضا الاستعداد لسوق سوريا نحو الاصطفاف الملائم.

صحيح أن الشرع يسعى جاهدا لوضع سوريا داخل نقطة توازن صعبة بين واشنطن وموسكو مثلا، متحريا حرية تحرّك داخل هامش ما بين غرب وشرق، غير أن العالم لا يسير وفق هذه الدينامية، وسيكون مستحيلا عليه أن لا يفرج لاحقا عن انحياز داخل النظام الدولي يتناسب، في كل مرحلة، مع مصالح سوريا وانسجامها مع مصالح الآخرين.

https://anbaaexpress.ma/h8xnx

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى