آراءثقافة
أخر الأخبار

الحرية كواقعة.. استبداد ضدّ الاستبداد

يكشف الإستبداد نفسه عن ذلك الحضور، بل الاستبداد كاشف للحرية بوصفها هي هي نفسها السبب الكافي لنقيضها

يصبح مفهوم الحرية إشكاليّا، ليس من حيث أنّه ظلّ مدار نقاش فلسفي بين نقيضة الحرية ووقائعيتها (سنعود إلى ذلك)، بل وبكل بساطة، لأنّ فينومينولوجيا التّفاهة لم تتجاهل واحدة من القضايا المحسّة، ألا وهي الحرية.

هذا الإيغال في البرهنة النظرية على الإستبداد، يساوي نقيضه، أي البرهنة على الحريّة. ذلك لأنّنا إذا أخضعناها للبرهنة بناء على السّبب الكافي سقطنا في الجبر، متى أصبحت الحرية بناء على ذلك السبب الكافي حتمية.

ويمضي المنطقي أبعد من ذلك حين يعتبر عدم وجود السبب الكافي للحرية في ضوء البرهان المزبور سيجعلها حرية منزوعة الإرادة التي هي أصلها. وهذا لعمري صحيح من الناحية المنطقية، لقد عرفوا قديما الإرادة نفسها بالحرية، وهي القدرة على الفعل: إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل. وسيستمر التعريف حتّى ديكارت. فهي إذن قدرة.

لنقل أنّ الحرية اليوم بمفهومها الحديث هي تمكين الإنسان من هذه القدرة على الفعل وعدمه، قدرة ممنوحة. ويبدو البرهان المستحيل على الحرية في صيغته السياسية، مستحيلا دون تجاهل النقيضة. إنّه نقاش سفسطي بامتياز.

وهذا ما يعزّز الجدوى في ترك البرهنة النظرية على الحرية، واعتبارها قضية محسّة، واقعة بالمعنى البرغسوني، وهذا لا يعني أنّها غير قابلة للبرهنة، بل هي بديهة غير قابلة للبرهان باعتباره استنتاجا متأخّرا، بينما الحرية هي في حضور دائم كبداية.

على هذا الأساس، يستشعر الحرّ هذه البداية المستمرة، للحرية بوصفها مساوقة للوجود، شعور دافق مستحيل مصادرته ولو بالقمع المادّي، لأنّها شعور باطني دافق.

يكشف الإستبداد نفسه عن ذلك الحضور، بل الاستبداد كاشف للحرية بوصفها هي هي نفسها السبب الكافي لنقيضها. يلوذ الضعفاء بالتنظير والبرهنة على الحرية، لأنّها ليست منكشفة بما فيه الكفاية، ليست محسّة في ذات تختزلها في الأطر الموضوعية لممارستها الممنوحة.

إنّ الوضعية النمطية لممارسة الحرية اليوم توحي بأنّها “مونيو” محدود. فما كان الفارابي يعتقد أنّ الإنسان مجبور في صورة مختار، تتكرر في الإطار الاجتماعي اليوم بأن القدر اللّيبرالي يقدم وصفة ممنوحة للحرية، يستشعرها المجتمع الحرّ في تكرار النّمط في إيحاء ذاتي تتيحه الليبرالية، بأنّه حرّ.

نظرة موجزة للإيمائية التي تحدد التحرر اليومي، نجد انقيادا للتكرار، لأنّ النمط المحدد للحرية يصبح باراديغما مقيدة للحرية.

عند المنعطفات الكبرى والحرجة تنكشف سلطة الباراديغم التحرري، تظهر الطبيعة الديكتاتورية للنّسق، يصبح الإنسان مجبورا في صورة مختار كما ذهب الفارابي، وهو ما يعني أنّه كائن مخدوع بالحرية، أي ذلك الكائن الحرّ داخل الإطار.

ويحصل أن يهيمن النمط الكارنفالي على هذا المضمون الخادع، حرية تتحوّل إلى فرجة، حرية دائما تظهر كلعبة ضد-أنوسية، كائن في حالة كلبية، هيبيزم، انتحار ذاتي، ذبابة سكرانة في مبولة الحانة، لكن حرية الخروج عن النسق، تصبح جريمة.

عبودية ناعمة، لكنها تواجه الاستبداد العاري متى بلغت الحاجة للحرية ذروتها. اليد الخفية الكفيلة بإرساء التوازن والتقويم، هي نفسها اليد الخفية في المجتمع المفتوح على كلّ شي إلاّ على سؤال الإطار.

يخشى المركز الإمبريالي من الهامش، لأنّه هو في نهاية المطاف البرّية المفتوحة على كلّ الاحتمالات، هو الذي يملك حرية العودة إلى التراث، تلك العودة التي باتت ممنوعة على المركز.

العودة للتراث هنا ليس بمعنى استرجاع تلك الكلّية بشروطها التّاريخية، إنما نعني بذلك العودة إلى الأصل، بما فيها الذّات. الهامش مقيد بعلاقة غير عادلة مع المركز، وهو مجبور على دفع إتاوة الوضعية الثالثية، لكن في الهامش يوجد هامش: هامش الهامش، هو البيئة الغريزية التي تهدد الأنا الأعلى الذي يرسم حدود الفعل وعدمه. ما يجري على الفرد يجري على الجماعة البشرية والجماعة الدّولية.

إنّ الحرية حين باتت أيديولوجية، والأحرار الذين يُنَظِّرون لها ليسوا أحرارا، والأطر التي تحدد أفق الحرية ليست خلاّقة، فإنّها حقّا تبدو كما عند نيتشه ثورة عبيد.

نلمس في الأطر النمطية للتحرر نزعات يصعب تفسيرها إلاّ في ضوء هذا الاستبدال الخادع. يحل الإستبداد بلبوس جديد، فتصفّق الجماهير. ويبدو الإطار الذي يُراد منه إنجاز الثورة على الإطار النقيض بوصفه استبدادا، أنماط من الإستبداد تمتاح من غريزة التسلط والتنافس المستميت على السيطرة والغنيمة.

إنّ فعل التّقمص وارد في ثورة العبيد، التي هي تحرر من إطار مختلف وليس استجابة للتحرر العميق، لكائن هو في الأصل حرّ، والحرية عنده واقعة، وليست حتى حاجة أيديولوجية، لأنّ الحرية حين تكون حاجة وجودية انتفت الحاجة فيها للبرهان، انتفت الحاجة فيها لتتكرار والإقناع.

التّحرر الزائف يتكامل مع الإستبداد، غير ملتزم بقواعد الأنوسة كالعدالة والإنصاف، يبحث عن إطار جديد لِغُنم أَوْفَر. العبيد كما نلمسهم يوجدون في هذا النسق ونقيضه، ربما يكون العبيد أشرس في الإطار المفترض. في صراع تغالبي يتلاعب بالمفاهيم والمشاعر، يكون النزاع بين إطارين، وليس بين الحرية والإستبداد، ففي نهاية المطاف كل إطار يخلق أدوات السيطرة والاستبداد. إنّ الحرّ حرّ في قيوده، والعبد عبد مهما تعددت الأطر.

الحرية مطلب مستحيل برهانا، ومعطى شعورا، تزداد متعة الحرّ بقدر الطّغيان، لأنّ السمة الحقّة للحرية كواقعة تنكشف دائما كبداية وليس كاستنتاج لاحق.

هنا تبدو الحاجة لتصحيح الرؤية والمبدأ والنمط، أي تحرير الفعل التحرري من رواسب التقمص الإستبدادي. فالحر يستطيع أن يحدس معالم العبودية والاستبداد في محيّا “التحرريين” المزيفين الذين لم تتنزّل عندهم الحرية كمطلب وجودي وليس كمطلب أيديولوجي لاستبدال الإطار. فالإستبداد حقيقة واحدة.

الحرّ من أدرك المائز بين الحقيقة والزّيف في صميم لعبة التّحرّر. فالترحال من نمط عبودي إلى آخر هي نفسها الخدعة التّاريخية لكائن تعددت أنماطه الحضارية، وظلّت العبودية ثابتة في جوهر ترحاله الحضاري.

إنّ عبودية الحضارة المعاصرة لا تقل عن سالفاتها، إذ الاقتصاد السياسي الذي يحدد النمط الاجتماعي والحضاري للرسمالية العالمية هو تدبير لعبودية مستحدثة، قيودها كامنة في تدبير الشأن العام، في خلق الرغبة الآسرة، النمط الإستهلاكي الذي يجعل العبودية طوعية، الانخراط الإجباري في الدّورة الاقتصادية وشروطها وكلفتها الطبقية، إعادة الإنتاج هنا تجري على النسق، أي إعادة إنتاج عبودية الإنسان بنفسه، الكائن الحارس لعبوديته. الحرّ لا يكون كذّابا ولا يكون طمّاعا.

تكمن المفارقة هنا في أنّ الحرية نفسها باتت شعارا مستهلكا. والحرية اليوم تتطلّب ثورة لتحريرها من الأطر المحددة لأفقها. ليصبح تعريفها بالفعل: إن شئت فعلت وإن شئت لن تفعل، وهذا التعريف هو بالقوة لا بالفعل، لأنّ الحرّ وإن كان قادرا على الإستبداد فهو لن يفعله لانعدام القابلية والمحفزية.

إنّ الضعف البادي على بعض أشكال التّمرّد، وهشاشة الأنوسة، والإلتفاف على الصّدق والعدالة والإنصاف، يؤكّد بأنّ الحرية التي تتحدّد في صناديق اقتراع خاضعة للانفعال والمصلحة وقوى المصالح، أو تلك التي تخضع للأنماط الجماعية التي تشدّ القطيع داخل فضاء عمومي مُؤطّر، حرية العبيد الهائمين في الأحقاد البدائية والكراهية والنّصب والاحتيال، حرّية العبيد الذين تكسبهم فوق عبوديتهم نذالة وعدوانية، تبدو إذن الحرية كسؤال ومطلب غير ناجز.

https://anbaaexpress.ma/pzmdz

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى