ارتبط تطور الهجرة في المملكة المغربية بمستوى متنامي من التنمية الاجتماعية والاقتصادية، انطلاقا من هجرة العمالة المأجورة داخليا ودوليا داخل المغرب ومن المغرب إلى أوروبا، وتأسيسا على ذلك، استقر الرأي على أن الهجرة نتيجة حتمية للتنمية وليس الى انعدامها.
منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، أصبح المغرب بلد هجرة عابرة وإقامة لمجموعة مختلطة من طالبي اللجوء، وبشكل مضطرد ومتنامي، للمهاجرين من أجل العمل من أفريقيا جنوب الصحراء والساحل والمتجهين إلى إسبانيا وإلى أوروبا.
ويدخل هؤلاء المهاجرون، الذين يصنفون غالبا في خانة المهاجرين غير النظاميين، المغرب عموما عبر الحدود من الجزائر بعد عبورهم الصحراء برا، وخاصة من النيجر.
في البداية، كان هذا في المقام الأول رد فعل على الاضطرابات السياسية والحرب الأهلية التي أثرت على بلدان مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، وجمهورية الكونغو برازافيل، وسيراليون، وليبيريا، وكوت ديفوار.
ومنذ عام 2000، كانت هناك زيادة حادة في عدد المهاجرين، وخاصة المهاجرون الباحثون عن فرص عمل، القادمين من مجموعة متنوعة من البلدان الأخرى كنيجيريا والسنغال وغامبيا ومالي وغانا وبوركينا فاسو والنيجر وجمهورية أفريقيا الوسطى، والكاميرون، ومؤخرا حتى البلدان الآسيوية مثل الهند، وباكستان، وبنجلاديش وسوريا.
ورغم أن عشرات الآلاف من الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى من الذين ينوون الهجرة إلى أوروبا يبذلون مجهودات جبارة لتحقيق هدفهم عبر الانتقال إلى اسبانيا، إلا أن الكثيرين منهم ممن يعتبرون المغرب بلد عبور لدخول أوروبا بشكل غير قانوني عبر الجنوب الاسباني أو جزر الكناري، يفضلون الاستقرار في المغرب باعتباره أفضل خيار، بعد فشل العبور إلى الضفة الاوروبية، بدلا من العودة إلى بلدانهم الأصلية غير المستقرة سياسيا والأكثر فقرا.
ويفرض قرار الاستقرار في المغرب لعدد هائل من المهاجرين على التراب المغربي اتخاذ قرارات شجاعة واستراتيجيات وتدابير استثنائية لمواجهة التحديات المرتبطة بهذا الشكل من أشكال الانتقال الجماعي للأشخاص الراغبين في هجرة اوطانهم للبحث عن افاق أرحب.
وفي هذا الإطار، نظم مرصد الصحراء للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بشراكة مع مجلس جهة الداخلة وادي الذهب ورابطة قضاة المغرب، يوم 28 دجنبر 2024، ندوة دولية حول “النموذج المغربي في قضايا الهجرة”، بمقر غرفة التجارة والصناعة والخدمات لجهة الداخلة وادي الذهب، بحضور رفيع المستوى للقنصل العام لجمهورية السينغال والقنصل العام لجمهورية الطوغو، وخبراء ومتخصصين في مجال الهجرة والتنمية وطيف واسع من ممثلي الجالية الافريقية وممثلي المجتمع المدني بالجهة.
وتهدف هذه الندوة الدولية إلى تسليط الضوء على التجربة المغربية في مجال تدبير قضايا الهجرة، وهي تجربة معترف بها على نطاق واسع إقليميا ودوليا، ميزتها الرؤية المستنيرة والفكر الثاقب لصاحب الجلالة الملك محمد السادس حول الهجرة كقضية لا يجب أن ينظر إليها إلا في إطار تصور كلي، مع ابتكار حلول وسياسات شاملة، لا سيما من خلال الاستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء، التي تم إطلاقها في عام 2013.
وهي الاستراتيجية التي مكنت من تسوية أوضاع آلاف المهاجرين غير النظاميين، وتحسين وضعهم الاجتماعي والاقتصادي، وتعزيز حقوقهم الأساسية ومنحهم مركزا قانونيا يمكنهم من التمتع بكافة الحقوق بحماية دولية ووطنية مسنودة باتفاقات دولية وتشريعات وطنية مغربية.
بالإضافة إلى ممارسات فضلى في مجال حلحلة قضايا ومشاكل هؤلاء المهاجرين تنفيذا لالتزامات المغرب الدولية وللإرادة العليا للدولة المتمثلة في توجيهات جلالة الملك محمد السادس القائمة على استشراف المستقبل، بما يضمن تنظيم حركية الأشخاص.
لأن إيلاء العناية اللازمة لمسألة الهجرة ليست قضية ظرفية، بل هو التزام طوعي من المملكة المغربية، تترجمه سياسة إنسانية في الشكل والمضمون والدور المركزي للمملكة المغربية كلاعب رئيسي في التعاون جنوب جنوب.
تميزت الحلقة النقاشية بإثارة نقاشات وأفكار حول السياسات والتحديات المرتبطة بقضايا الهجرة بالمغرب، انطلاقا من تنزيل الخطب الملكية السامية في التعامل مع المهاجرين وتسليط الضوء على التجربة المغربية في التعامل مع قضايا الهجرة باعتبارها نموذجا يحتذى به على الصعيد الإقليمي والدولي.
إضافة إلى التركيز على السياسات الشاملة التي اعتمدها المغرب، خصوصا بعد إطلاق “الاستراتيجية الوطنية للهجرة واللجوء” في عام 2013، والتي تعنى بتسوية أوضاع المهاجرين وتحسين اندماجهم في المجتمع المغربي، وتضمنت محاور النقاش، المقاربة القانونية والسوسيولوجية لقضايا الهجرة خاصة حماية حقوق المهاجرين والمهاجرات والعنف العابر للحدود في هذه القضايا بالإضافة إلى استراتيجية المملكة في التعامل مع قضايا الهجرة.
وتناول المشاركون في الحوار مواضيع مختلفة، مثل الحماية القانونية للمهاجرين، ومكافحة العنف عبر الحدود، وتعزيز المقاربة المغربية في تدبير الهجرة، وتم التركيز أيضا على تأثير سياسات الهجرة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المناطق، وخاصة في الأقاليم الجنوبية، وبالتالي تعزيز دورها الاستراتيجي كمفترق طرق للتجارة بين إفريقيا وبقية العالم.
وقد توجت خلاصات اللقاءات بالإشادة بممارسة المملكة المغربية الاتفاقية والوطنية في مجال الهجرة واستعداد المغرب لتقديم النموذج الرائد في إطار حل قضايا ومشكلات الهجرة كونيا وإقليميا وطنيا.
وتعد تلك الندوة الدولية حدثا ذا قيمة مضافة لدعم الترافع عن القضية الوطنية للمملكة المغربية في إطار حماية حقوق الإنسان، وإبراز دور الأقاليم الجنوبية، خاصة منطقة الداخلة وادي الذهب، باعتبارها نموذجا للاستقرار والتنمية والتعايش السلمي.
وفي نفس السياق شكلت الندوة فرصة ثمينة لتعزيز الحلول المستدامة والإنسانية لتحديات الهجرة، وفضاءا مناسبا للمساهمة في تفكيك الخطابات المنحازة التي تبثها بعض الأطراف المعادية للمملكة، من خلال توضيح التزام المغرب بحقوق الإنسان والتنمية الشاملة بشكل ملموس، وإعطاء صورة إيجابية عن الجهود التي تبذلها المملكة المغربية في هذا الصدد، مع التأكيد على وحدة الأقاليم الجنوبية وسيادتها ضمن رؤية مغربية عالمية تستشرف المستقبل.