عاد الكاتب والروائي والصحفي الأوروغوياني إدواردو غاليانو إلى مونتيفيديو في عام 1985 ﻷنه منذ عام 1973 تم نفيه في الأرجنتين ﻵرائه السياسية حيث أسس وأخرج مجلة Crisis وبعد ذلك في إسبانيا وربما لهذا الأخير هو كاتب معروف على نطاق واسع بيننا حيث انطلقت قريحته الأدبية التي إنطلقت نحو العالمية وبصمت بصماتها بالحركة الأدبية اللاتينية.
غاليانو زرع أنواعا مختلفة من الألوان الأدبية المنكهة بالبهارات والتوابل اللاتينية وهي موزعة بين الرواية والشعر والمقالات المنشورة في الصحف، وقد إستطاع أن يتميز في الساحة الأدبية العالمية وحاز العديد من الجوائز الدولية.
ولكن في كتابه أفواه الزمن Bocas del tiempo موضوع مقالنا تختلف إختلافا كليا عن أعماله الأخرى وذلك لأن هذه الرواية تحمل في أحشائها مجموعة من القصص والحكايات الصغيرة التي تروي قصة واحدة لموضوعات متعددة ومتنوعة بطريقة متسلسلة لاتخلوا من حس الدعابة والفكاهة في رحلة تأخذك إلى زوايا وعوالم متعددة، من خلال مفارقات وتأملات الكاتب في التاريخ والكون والسياسة والحياة و في إستحضار أكثر الجوانب ودية للأحداث البشرية مثل الروابط بين الإنسان والطبيعة من خلال الكسوف والأمطار والمد والجزر والأشجار والحيوانات وأيضا الكثير من الجوانب الأكثر دراماتيكية مثل الحروب بدءا من الإمبراطورية الرومانية انتهاءا إلى حرب العراق والمعلومات المضللة في عالم يقال انه وصل حد الإفراط التخمي في التواصل (إعلام العولمة ).
فهذه الرواية الساحرة هي مجموعة نصوص كان قد تم نشر بعضها في الصحف والمجلات وعند دمجها في هذا النسيج تغيرت تلك الإصدارات النصية اﻷولى في الشكل واللون لذلك يمكن للقارئ المتمكن والمتمعن أن يلاحظ في هذا الكتاب أن جزءا كبيرا من النصوص المتناهية الصغر شكلا العميقة مضمونا، يرجع اصلهم إلى الكتابة الصحفية (مقال رأي) رغم تعديل بعضها فهذه الحكايا بعضها مستوحى من حقائق معينة:/ ((من بعيد يصدر الرؤساء والجنرالات أوامرهم بالقتل، هم لايقاتلون إلا في الشجارات الزوجية، لايريقون من الدم إلا مايسببه جرح أثناء الحلاقة لايشمون من الغازات إلا ماتنفثه السيارات، لايغوصون في الوحل مهما هطل المطر في الحديقة، لايتقيؤون من رائحة الجثث المتعفنة تحت الشمس، وإنما من تسمم مافي الهمبرغر، لاتصم آذانهم الانفجارات التي تمزق بشرا وتقوض مدنا وإنما الأسهم النارية إحتفالا بالانتصار ولاتعكر أحلامهم عيون ضحاياهم)).
والبعض الآخر ينشأ من فكرة /:
من النواجذ تعلمنا شق الأنفاق
من القندس تعلمنا إقامة السدود
من الطيور تعلمنا بناء البيوت
من العناكب تعلمنا الحياكة
من الجذع الذي يتدحرج على المنحدر تعلمنا العجلة
من الجذع الذي يطفو مع التيار تعلمنا السفينة
من الريح تعلمنا الشراع
من الذي علمنا العادات الخبيثة؟ ممن تعلمنا تعذيب الآخر وإذلال العالم. \
فالكتاب في بعض أجزائه يرصد مشاهد واقعية تمكنك من إنشاء فكرة بطريقة بسيطة وامثلة من الحياة، كما أن مشاهد الكتاب وقصصه هو صوت المقهورين والمظلومين في شتى بقاع الأرض في مواجهة هذا العالم المنافق ذات الوجوه السبعة وفي تعرية واقع الحكومات ونفاق وتلاعب الميديا على حساب آلام وجراح واحزان الشعوب خدمة ﻷجندات سياسية واقتصادية لعدد محدود من النظم السياسية بالعالم./
صناعة التسلية تعيش على سوق العزلة
صناعة العزاء تعيش على سوق الغم
صناعة الأمن تعيش على سوق الخوف
صناعة الكذب تعيش على سوق البلاهة
أين يقيسون هذه النجاحات؟ في البورصة.
وكذلك صناعة الأسلحة. سعر أسهمها هو أفضل خبر في الحروب./
إضافة إلى تأملاته عن الكوميديا السوداء للعالم الكولونيالي وقد أشار إليها في قصتين قصيرتين بالكتاب تحت عنوان :كوميديا القرون الخمسة وكوميديا القرن، كما يتضمن الكتاب نصوص من أصل ديني وذلك من خلال تخليده لمدينة كانديلاريا بجزر الكناري التي تعتبر من المزارات الكاثوليكية المقدسة حيث توجد فيها كنسية بازيليكا دي كانديلاريا والتي تحوي بداخلها صورة كبيرة للسيدة مريم البتول عليها السلام.
فمجموعته القصصية المتناثرة في أفواه الزمن هي لوحة فسيفسائية في شكل نثر وصحافة وشعر فغاليانو يحاول تشكيل ملامح قصصية لمجموعات صغيرة تختلط مع بعضها البعض في مزيج وقالب أدبي رائع من خلال إستعماله للغة حساسة ودقيقة تتدفق فيها الكثير من المشاعر المتناقضة والتي لاتستبعد أي حوار أو التي تم إدراجها في السرد بفضل بنيوية القصة المتكررة القريبة من مقال الرأي ويختتم قصصه باستنتاجات معينة وإسقاطها على الواقع والتي لاتخلوا من حس الدعابة، وغالبا مايستمد غاليانو معظم شخصيات ومشاهد وأحداث نصوصه من بيئته التي تمتد على طول مساحة أمريكا الجنوبية وماتصميم الكتاب الأصلي بلغته الأصلية (الاسبانية)..
وهو عبارة عن نقوش صغيرة مجهولة المصدر من منطقة Cajamarca البيروفية إلا انعكاس للهوية الأصلية لتلك الأرض الساحرة الممزوجة بعبق التاريخ العتيق، تلك الأرض التي ألهمت الكتاب والساردين من أمثال:بورخس وماركيز وماريو بارغاس وإيزابيل الليندي، تلك الأرض بتنوعها المذهل وغرابتها وحيويتها وأسرار تضاريسها وحيواناتها وأشجارها ونباتاتها وغاباتها وهوائها وأنهارها وأبطالها وعشاقها وجمال نسائها اﻵخاذ..
غير أن غاليانو يغادر أرضه اللاتينية عدة مرات ليسوح في أرجاء المعمور على نهج الرحالة إبن بطوطة إنها حكاية الوقت وهي منسوجة بخيط الوقت إنها أفواه من الزمن يظهر أبطالها ويختفون لمواصلة رحلة الحياة.