د. محمد الريوش
تقع أكسوم في شمال إثيوبيا، على سفوح جبال عدوة، وتعد واحدة من المدن التاريخية الهامة في المنطقة، حيث كانت مركزًا تجاريًا وثقافيًا ودينيًا. فقد تأسست بها مملكة قوية، لعبت دورًا بارزًا في تاريخ المنطقة. من أبرز أحداث تاريخها، أنها كانت أول دولة أفريقية جنوب الصحراء تتبنى المسيحية، كما كانت موطنًا لملوك السلالة السليمانية.
تمثل أكسوم مزيجًا من الماضي والحاضر، حيث يبرز فيها تأثير الحضارة القديمة، وتستمر في كونها شاهدًا على قدرة الإنسان على التكيف والازدهار في ظروف صعبة.
ظهر في القرن السابع عشر المفكر زارا يعقوب الذي أسهم في تطوير فلسفة فكرية، يمكن اعتبارها بداية التنوير الأفريقي. يعد كتابه “حتاتا” أو (التحقيق) من الأعمال الفلسفية المهمة، التي تعكس تفكيرًا عميقًا يتوازى مع الفلسفات الكبرى، مثل: الفلسفة الديكارتية التي تركز على الذات بوصفها كيانا منفصلا ومكثفا، وأن الفهم المعاصر للذات، يشمل التفاعل المستمر مع الآخرين والبيئة. ورغم قيمة زارا يعقوب الفكرية، فإنه لم يحظ بالاهتمام الكافي في الساحة الفكرية العالمية، مما يعكس قلة التقدير للأفكار الفلسفية الأفريقية المحلية.
زارا يعقوب: فيلسوف الكهف
وُلِدَ زارا يعقوب، أو زَرْعَ يَعقوب كما يُكتب باللسان الإثيوبي، في أسرة فقيرة، أواخر أغسطس/آب عام 1599، في أكسوم. تلقى هناك تعليمه الذي ارتكز بالأساس على قراءة مزامير داود، ودراسة الموسيقى الكنسية المقدسة.
لكن مسيرته التعليمية سرعان ما ألقته به في مهمهات وصراعات فكرية ودينية مريرة. في زمن كانت فيه إثيوبيا تضطرب بين إيمانها الأرثوذكسي وتأثير المبشرين الأوروبيين، حيث وجد زارا نفسه ملاحقًا، بسبب تفسيراته المستقلة للكتب المقدسة. فآوى إلى كهف على ضفاف نهر “تاكازه”، أمضى داخله عامين في التأمل معتزلا البشر، مقبلا على الطبيعة في مواجهة فكره، يرتبه وكأنه يرتب حجارة بيت على وشك الانهيار. يقول زارا عن نفسه:
”وُلِدتُ في أرض كهنة أكسوم، لأب مزارع فقير. كان يوم ولادتي هو الخامس والعشرين من شهر “نهسي” عام 1592 ميلادي، في السنة الثالثة من حكم الملك يعقوب. سُميتُ زارا يعقوب في المعمودية المسيحية، لكن الناس كانوا ينادونني وارقيي. وعندما كبرت، أرسلني والدي إلى المدرسة لأتعلم. وبعد أن قرأتُ مزامير داوود، قال معلمي لوالدي: “إن ابنك هذا ذكي وصبور على التعلم؛ إذا أرسلته إلى مدرسة عليا، سيصبح عالِمًا وطبيبًا”.
بعد أن سمع والدي هذا، أرسلني لأتعلم زِما (الأناشيد الكنسية). كان صوتي خشنًا، وحنجرتي غير مؤهلة، سخِر مني معلمي وهزأ بي. بقيت هناك ثلاثة أشهر، حتى تلاشى حزني، ثم انتقلت إلى معلم آخر كان يعلمني قاني وسوسو. وهبني الله موهبة التعلم أسرع من زملائي، وبهذا عوضني عن خيبتي السابقة. مكثت هناك أربع سنوات.
وفي تلك الأيام، أنقذني الله كأنما من براثن الموت؛ ففي أثناء لعبي مع أصدقائي، سقطتُ في وادٍ عميق، ولا أعرف كيف نجوت سوى بمعجزة من الله. بعد إنقاذي، قمت بقياس عمق الوادي بحبل طويل، فوجدته خمسة وعشرين ذراعًا وكفًا واحدًا عمقًا. حمدًا لله على إنقاذي، عدتُ إلى بيت معلمي”.
إن الكهف لم يكن مجرد ملاذ من الاضطهاد، بل تحول إلى فضاء للتفكر العميق، حيث طور زارا نظرياته حول العقل والإيمان والخالق. اعتبر زارا أن العقل، أو “لبونة” ((Lebuna كما أسماه، أسمى ما وهبه الله للإنسان، وأنه الوسيلة الوحيدة للتمييز بين الخير والشر، الحقيقة والزيف. كتب يقول: “لقد وضع الخالق في قلب الإنسان نور العقل ليُبصر به واجبه مما ليس بواجبه”.
يتابع زارا في ذات السياق: “بعد ذلك، انتقلتُ إلى مدرسة أخرى لدراسة تفسير الكتب المقدسة. بقيتُ عشر سنوات في هذا النوع من الدراسة؛ تعلمتُ تفاسير الأوروبيين (فرنج) وتفاسير علمائنا المحليين. وفي كثير من الأحيان لم تكن تفسيراتهم تتفق مع عقلي، لكنني كنتُ أحبس رأيي وأُخفي في قلبي كل الأفكار التي تخطر ببالي.
عندما عدتُ إلى مسقط رأسي أكسوم، قمت بالتدريس لمدة أربع سنوات. لكن هذه الفترة لم تكن هادئة؛ ففي السنة التاسعة عشرة من حكم الملك سوسينيوس، بينما كان أفونص، وهو فرنسي (فرنج) يشتغل منصب أبونا، وبعد عامين من وصوله، اندلع اضطهاد كبير في كل إثيوبيا. فقد اعتنق الملك إيمان الفرنج، ومنذ ذلك الوقت بدأ يضطهد كل من لم يقبل هذا الإيمان”.
بين زارا يعقوب وديكارت: لقاء العقول
في نفس الحقبة تقريبًا التي كان فيها زارا يعقوب يعكف على تأملاته في كهفه، وعلى الضفة الأخرى من الجغرافيا، كان رونيه ديكارت يخط معالم التنوير الأوروبي في كتابه “تأملات” و”خطاب في المنهج”. ورغم أن المسافة الجغرافية بينهما شاسعة، فإن أوجه التشابه بين أفكارهما تثير الدهشة: الإيمان بالعقل، إثبات وجود الله بالحجة العقلانية، والنقد الجريء للأديان المؤسسية. يقول أحد المؤرخين: “الفلسفة الحديثة، بمعناها العقلاني النقدي، ظهرت في إثيوبيا مع زارا يعقوب في نفس الوقت الذي بدأت فيه في أوروبا”.
لكن لماذا لم ينل زارا يعقوب نفس الشهرة التي نالها ديكارت؟ قد يعود ذلك إلى التأخر في اكتشاف نصه. إذ لم يعثر على كتابه “حتاتا” إلا عام 1852، من طرف راهب كابوشي، وبعد ذلك أرسلها إلى المكتبة الوطنية الفرنسية، حيث ظلت طي النسيان حتى القرن العشرين. ورغم هذا الاكتشاف من زمن طويل إلا أن زارا يعقوب لم تدخل معظم أفكاره إلى المنهاج الفلسفي، وتبقى مضامين كتابه محدودة الذيوع إلى الآن.
الحتاتا: فلسفة العقل والإنسانية
يُعد كتاب “حتاتا” شهادة على عبقرية زارا يعقوب وتفرده، فقد تناول فيها قضايا وجودية وأخلاقية برؤية تتجاوز عصره. دافع عن المساواة بين الجنسين في الزواج، رافضًا تعدد الزوجات الذي اعتبره مخالفًا لقانون الخلق. كما انتقد العبودية باعتبارها إنكارًا لإنسانية البشر، وطالب باحترام كل الأديان دون تمييز.
كانت إحدى أبرز أفكاره الدعوة إلى استخدام العقل لفهم النصوص الدينية، بعيدًا عن العقائد الدوغمائية. كتب يقول: “يا ربّي وخالقي، أنت الذي وهبتني العقل، امنحني الفهم وكشف حكمتك لي”. ورغم التزامه بالإيمان المسيحي، فإنه رفض التفسيرات التي تتناقض مع العقل، سواء في المسيحية أو اليهودية أو الإسلام.
إعادة الاعتبار لفيلسوف أفريقيا
رغم الجدل الذي أثير حول أصالة النص بعد اكتشافه، خصوصًا مع ادعاءات بعض الباحثين الأوروبيين في القرن العشرين بأن النص ربما يكون من تأليف الراهب الذي عثر عليه، فإن الدراسات الحديثة أكدت أصالته. الباحث كلود سومر، في عمله الضخم “الحكمة الإثيوبية”، أشار إلى أن “حتاتا” يحمل بصمات الفكر الإثيوبي الأصيل، مستندًا إلى تحليلات لغوية وتاريخية دقيقة.
اليوم، يُنظر إلى زارا يعقوب باعتباره أحد أبرز الفلاسفة الذين جسدوا فكرة العقلانية في زمن كانت فيه أفريقيا تُصور غالبًا كأرض خالية من الفكر الفلسفي. إن فلسفته ليست مجرد انعكاس للتقاليد الإثيوبية، بل هي دعوة عالمية للتأمل العقلي والإيمان الإنساني.
هل يمكن لأفريقيا أن تتفلسف؟
قصة زارا يعقوب هي شهادة على غنى التراث الفلسفي الأفريقي، الذي غالبًا ما يُغفل في السرديات الغربية. إنها تذكير بأن التنوير ليس حكرًا على أوروبا، بل هو شعلة إنسانية يمكن أن تضيء من أي مكان. وكما كتب زارا في خاتمة رسالته: “العقل هو النور الذي يقودنا إلى الحقيقة”.
منصة جيسكا