يتعيّن التفكير ضدّ الدّماغ، فالقضية لا تقف عند هذا المجاز الذي خاطر به غاستون باشلار، بل إنّ هذه المخاطرة هي ما يحدث بالفعل حين نُسائل استنتاجاتنا الأولى.
تحتاج المفاهيم بين الفينة والأخرى إلى اشتباك مع ما كان يبدو مستحيل التّفكير فيه. وها قد تحدّثنا قبل سنوات عن حفريات المستقبل، وقصدنا بذلك البحث في ممكناته، لكنني اليوم سأتناول ذاكرة المستقبل، بما يؤكد أنّ المستقبل ليس شيئا نستشرفه، بل هو ذاكرة نقرؤها في المستقبل.
إنّ التاريخ ليس استذكارا، بل هو في صميم العملية الاستشرافية. نقرأ التاريخ وفي الواقع نحن نتوقّع منه ما نتطلّع إليه في المستقبل، التاريخ كإسقاط مستقبلي.
إنّ التّاريخ شيء ما لا نَحِنُّ إليه، بل ننتظره. صحيح أنّه يبدو كمستقبل واضح المعالم، تصميم عرفناه وربما عشناه في خيالنا، وننتظر تحققه في المستقبل.
إنّنا استطعنا أن نُقنعه بالعودة، عود أبدي، فلو تخلّينا عن تاريخ وثّقناه في خيالنا، فإنّه هو سيزداد إلحاحا في الحضور، ولن يتركنا، وبتعبير إدواردو غاليانو فإنّ “التاريخ لا يقول وداعاً أبداً، التاريخ يقول سأراكم لاحقاً”.
الذّاكرة الملحّة في العيش، كحضور مكثّف، كشيء يخرق كل التخارجات الزمنية، الذّاكرة برغسونيا شيئ حاضر، بل يمكننا أن نمضي أكثر لنقول بأنّ الذّاكرة شيء ننتظره بقدر ما نَحِنُّ إليه، إنّها تظلّ ماثلة أمامنا باستمرار، كمستقبل.
الحنين للمستقبل يكتسي دائما حنينا للتّاريخ، التفافا على التّوقع، لأنّ المستقبل تمّ تصميمه في الذّهن ليس كاحتمال، بل كحقيقة، كرغبة.
نستشرف من المستقبل ما نتمنّاه، ونغضي عمّا لا نتمنّاه.
الاستشراف بالتّمنّي كما يفعل هواة التحليل السياسي في البيئة العربية غير الآبه أهلها بالحقيقة ولا حتّى بمدارك الخيال الخلاّق.
فلقد انهار الهيكل وتمزّقت أنسجة التّمنّيات وتبيّنت هشاشة العقل القياسي. كنّا ننتظر شيئا نتمنّاه لا شيئا نتوقّعه بأسبابه الكافية. فلقد كان واضحا أنّ الواقعية حين تخون التنظير، والرغبة حين تتجاهر المُؤشّرات، فحتما سيكون للمغالطة بأس شديد في النّظر.
كان الخيال وسيكون دائما عنصرا أساسيا في الحياة المحسة والبناء النظري نفسه، لكن أي خيال سينقلنا إلى مستقبل أفضل؟ لا شكّ أنّ المشكلة ليست مع الخيال، بل في الخيال.
خيال رثّ متهالك مقابل خيال رافد بالأمل والقوة الذّهنية ومتصالح مع الإمكان. خيال المدينة الفاضلة وليس خيال المدينة المدنّسة. خيال الفيلسوف لا خيال الأنوك.
فالسوبر-تفاهة تصيب الخيال نفسه في مقتل. حين ينكمش المستقبل في ذهن الإنسان، فهذا مؤشّر على أنّه بات كائنا بلا تاريخ وبلا مستقبل، لحظة شاردة في فراغ، زمن بلا زمنية، بلا ذاكرة ولا انتظار.
لهذا لا نستفيد من التّاريخ، لأنه كتصميم في خيالنا غير قادر على إذكاء الرّغبة في المستقبل. فقدان الرغبة في المستقبل تضفي على التّاريخ قدرا من الغموض والجمود.
لكي نُمكِّن العقل من قراءة التاريخ أفضل، يتعيّن تمكين العقل من قراءة المستقبل برغبة أنقى ووعي مفرط مما يفعله خيال مُدنّس.
إنّ تاريخ المستقبل وحده يضمن مستقبل التّاريخ، مستقبل يتصالح فيه العقل مع تخارجاته الزمنية، كوصل لا فصل فيه، كإمكانية مفتوحة على اختيارات لا تفرضها الرغبة، بل يفرضها وعينا الكمومي بالعوالم الموازية، فالمستقبل بهذا المعنى لا يكمن أمامنا بل هو موازي لنا، فلا يمثُل أمامنا إلاّ ما كان في حاق تجربتنا الموازنة، وهذه فرضية تفرض نفسها مما يجعل المستقبل يتجاوز كونه رغبة، بل حقيقة فيزيائية بامتياز.