عبد المجيد بن شاوية
غالبا ما تأخذنا الأسطورة إلى عوالمها الغرائبية، مشدوهين برمزيتها المتعالية عن الواقع، وبحيويتها غير المعهودة في الحياة، تحملنا إلى عالم يعجز معه الإنسان عن الوصف، والإمساك به أيضا، إنها نتاج إرادات القوى الخارقة، إنها الفعل الخارق من صنع الكائنات العليا والمتميزة بقدراتها غير العادية، تشكل الإمكان الذي ليس لكل فرد القدرة على إيجاده بمحض إرادته، للأسطورة سلطة خارقة على بني البشر، خاصة في قدم العصور، ولا زالت بين ظهرانينا، مع نسبية ما في الاعتقاد بها لدى الكائن الإنساني المعاصر، وقد يحذو الكائن الإنساني حذو محاكاتها في حياته الاجتماعية والسياسية والثقافية، ناسجا سيناريوهات تنم عن رؤية قادرة على خلق أشياء وأحداث وحقائق موسومة بغرابتها وعجبها العجاب.
إن التوظيف الأسطوري في العديد من الأعمال والإنجازات البشرية، أصبح متداولا في عصرنا هذا، وخاصة في مجالي السياسة والأيديولوجيا، لما لهاتين الأخيرتين من انعكاسات قوية على السلوك الإنساني الفردي والجماعي، كونهما مجالين يحتد فيهما الصراع والتنافر والتجاذب بشكل خاص، بين القوى السياسية والأيديولوجية، سواء بداخل مجتمع بعينه أو بين كيانات إثنية وحضارية، أو بين مؤسسات وتنظيمات ذات طابع وطني أو عابرة للقارات، حيث تنتج الخطابات والوقائع والأحداث بحسب طبيعة مجال الصراع، وكل من الأطراف المتصارعة تعمل على نسج سيناريو الاحتواء والتحكم أو العمل على قتل الخصم وتحييده من على الساحة، أو الإقصاء والتهميش في أحسن الأحوال.
فالعالم المعاصر- حديثنا هنا يصب في علاقات قوى الغرب الإمبريالي وغيرها المنتمية إلى فلكه بالدول والشعوب الأخرى- أصبح يدار بآليات “مؤسطرة” في أساسها من قبل القوى الفاعلة والمتحكمة في دواليب السياسة والاقتصاد والأيديولوجيا والصناعة الثقافية والإعلامية، في علاقاتها بالشعوب والأنظمة والدول، بحيث يتم خلق وإبداع حقائق على قدم وساق مع مصالحها السياسية والإستراتيجية، فتجند هاته القوى طاقاتها وخبراءها ونبوابغها للعمل على الاشتغال على المعلومة وتحويرها، في أفق استثمارها بالشكل الذي يسمح لها باحتواء الأطراف الأخرى بداخل دوائر الصراع..
وذلك بافتعال حدث السرية، وقد تكون هاته المعلومة / الحدث، منذ بداية تكونها / نه إلى لحظة استغلال النتائج، من ممكنات إشرافها على كل تفاصيل المعطى الذي أصبح معلوما قبل أن كان سرا، مسوقة المعلومة / الحقيقة المفضوحة عبر آلياتها الإعلامية والاستخباراتية ومراكزها الدراساتية والبحثية، لذا يعمل كل من الغرب وأجهزته والشركات عابرة القارات والتنظيمات السرية الدائرة في فلكه والحركة الصهيونية على إفشاء ما يعتبر سرا بالنسبة للشعوب والأنظمة المعنية به، معوضة إرادات الشعوب في عمليات الكشف عن حقائق شؤونها العامة المتعلقة بها، في قالب أسطوري بحيثياته الغريبة، أو موهمة شعوب دولها بالأخطار المحدقة بها في حالات اشتداد الصراع على مصالح بذاتها تسحب منها بعضا من صلابة مراكزها على المستوى القاري أو الدولي.
إذن، نحن إزاء فكر سياسي بحمولات أسطورية، يشتغل على تقديم المعلومة وتزييف الحقائق ونشر المغالطات، مع نهج الحربائية في المواقف على أساس من المعطيات تبدو وكأنها خوارق متعالية عن الواقع، وليس من صميم الفعل البشري، أو أنها حقائق معطاة ثاوية في غياهب المجرد لا يمكن اكتشافها إلا بقدرة قادر خارق للعادة، بغرض أهداف سياسية واستراتيجية تضمن ديمومة المصالح الدائمة للقوى الفاعلة دوليا.
ما اختلقته القوى الغربية وأجهزة استخباراتها والحركة الصهيونية والقوى الحفية من أساطير سياسية في كثير من محطات السياسة الدولية، يتأكد بالملموس أن فاعلية آليات التحكم على المستوى الدولي من قبل هاته القوى الفاعلة تعتمل على أساس الاحترابية بأدوات وقوالب أسطورية، خاصة في مجال التسريبات السرية في قضايا كثيرة، ذات طابع سياسي واقتصادي وأيديولوجي، وهذا ما يجعل الشعوب والأنظمة الأخرى بالمقابل في كف عفريت أمام أشياء معطاة في ميزان القوى مسلوبة الإرادة والحركة.
فإن كانت الأسطورة قديمة قدم المجتمعات والعصور والحضارات، فإن هذا لا يمنع من إعادة إنتاجها بقوالب أخرى، وإعادة صناعتها من قبل القوى الدولية المتحكمة في مكاييل ميزان القوى على أكثر من صعيد، مستلهمة طابعا السحري والغرائبي وقدرتها على استمالة العقل الإنساني الفردي والجماعي، بالاشتغال على معطيات كأنها حقائق مسلم بها، بغرض أدلجة الواقع الدولي بحسب المصالح المرصودة في تصوراتها وتطلعاتها التحكمية والهادفة إلى استمرارية وإطالة أمد السيطرة على الشعوب والأنظمة الأخرى.
* كاتب مغربي