هشام فرجي
لم تعد الهوية الثقافية في عصرنا الحالي ذلك الحصن المنيع الذي يحمي القيم والتقاليد المحلية من التأثيرات الخارجية، بل أصبحت أشبه بمنصة مفتوحة أمام العالم بأسره. مع انتشار التكنولوجيا الرقمية والعولمة، تحولت عناصر الثقافة إلى منتجات رقمية تُعرض على الشاشات وتُستهلك بضغطة زر.
فأين يكمن الخطر في هذا التحول؟ وهل ساهمت الرقمنة في تعزيز التنوع الثقافي أم أنها أدت إلى طمسها؟.
في الماضي، كانت الثقافة تُنقل شفهيًا أو عبر ممارسات يومية تعبر عن ارتباط الأفراد بمجتمعهم وتاريخهم. أما اليوم، فقد أصبحت المظاهر الثقافية محكومة بقواعد السوق الرقمي. الأزياء التقليدية، التي كانت رمزًا لهوية شعوب معينة، باتت تُباع عبر المتاجر العالمية، وأحيانًا يُعاد تصميمها لتناسب الذوق الاستهلاكي العام.
كذلك الأمر بالنسبة للموسيقى والرقصات التراثية، التي لم تعد تمثل طقوسًا اجتماعية أو رموزًا ثقافية لهوية ما بقدر ما أصبحت عروضًا ترفيهية تُقدم لجذب الجماهير وتحقيق الأرباح المادية.
رغم هذه الإشكالات، فإن العولمة الرقمية لا تعد نقمة على الثقافة. على العكس، فقد ساهمت التكنولوجيا في حفظ الكثير من العناصر الثقافية من الضياع، من خلال التوثيق الرقمي وإتاحتها للأجيال القادمة.
كما وفرت فرصة نادرة للثقافات المهمشة للتعريف بنفسها على نطاق عالمي، مما خلق نوعًا من التنوع الثقافي المتاح للجميع. لكن هذا التنوع يواجه خطر الاندماج في نمط عالمي موحد، حيث تسيطر الثقافات القوية على المشهد وتهمش الثقافات الضعيفة.
أمام هذه التغيرات، يظهر تحدٍ كبير يتمثل في ضرورة حماية الهوية الثقافية من التحول إلى منتج تجاري.
يتطلب ذلك جهودًا حثيثة لتعزيز الوعي بأهمية التراث الثقافي وتشجيع الأجيال الجديدة على الانخراط فيه بطرق تتجاوز الاستهلاك الرقمي.
كما أن قوانين حماية الملكية الفكرية أصبحت ضرورة ملحة للحفاظ على أصالة التراث الثقافي ومنع استغلاله التجاري غير العادل.
الهوية الثقافية إذن هي مكون أساسي للإنسانية، وبينما يمكن للتكنولوجيا أن تكون وسيلة لحمايتها، فإن استخدامها بشكل غير مدروس وغير معقلن قد يؤدي إلى إفراغها من مضمونها.
يبقى التحدي الأكبر هو إيجاد توازن دقيق يضمن الحفاظ على التراث الثقافي الحي مع الاستفادة من أدوات العولمة الرقمية.