لا تنفك أصوات نشاز أن تطلق نداءات للعالم بين الفينة والأخرى، كي يتدخل على عجل لإنقاذ الصحراويين في منطقة الصحراء، نظرا لما يتعرضون له من انتهاكات جسيمة، طمعا في العثور على من يقتنع بتلك المزاعم ويفتح أبوابا في فضاءات دولية أو قارية إعادة ترديد شعارات رومانسية، لم تعد ذات مصداقية ومعقولية حتى في نفسية قيادة الرابوني!
في غفلة من الكثير من الجهات الحقوقية، أطلقت البوليساريو مبادرة خادعة للمصالحة بين الصحراويين ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان المرتكبة من طرف قيادة التنظيم ومجموعاتها الإجرامية، ومحاولاتها اليائسة لطي هذا الإرث الثقيل بطرق ملتوية لا تلبي الحد الأدنى لشروط العدالة الانتقالية المتمثلة في كشف الحقيقة كاملة حول ما جرى، وتوفير سبل انتصاف فعالة لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، بما يلبي حقوقهم في معرفة الحقيقة والعدالة والتعويض، بالإضافة الى توفير ضمانات احترام هذا الالتزام عن طريق اعتماد ونهج تشريعات تستند الى مبدأ عدم التكرار وتحقيق السلام والمصالحة الدائمين..
وهذا لن يتم الا في سياق إصلاح ديمقراطي شامل داخل دولة الجزائر باعتبارها طرفا مضيفا للمخيمات وليس نزوة لقيادة كانت تعتبر الى وقت أن الخائن أو العدو أو الخصم يتم تحديده وفق وجهة نظر مسؤول تستند أساسا على أحقاد وضغائن قبلية او مناطقية او هوياتية أو بدافع الغيرة والحسد.
شدت مجموعة من الضحايا الصحراويون الذين تجرعوا عذابات أقبية “الثورة”، في سياق لم يتم توضيحه بشكل كاف لحدو د الساعة بسبب هيمنة أجواء الرعب والتغول والتخويف اتجاه من يرغب بالبوح من داخل المخيمات حول ما جرى من جرائم، والتهجم وإطلاق حملات تشويه ووصم وتخوين ضد كل من تجشم عناء الحديث عن أهوال القيادة ومراكزها غير النظامية المخصصة للتعذيب والاحتجاز، الرحال إلى مركز الرابوني للبحث عن بلسم للجراح الغائرة في وجدانهم، لقاء ما تلقوه من صنوف العذابات التي لا تجد لها من سوابق إلا في الرشيد، غير أن تطلعاتهم لم تقابل بما يشفي الغليل، بل هددوا بإخراج من دراعة الوطنية التي يبسطها مغامرو الرابوني على من يرون فيه استمرارا لتحكمهم وجبروتهم، فرجعوا بخفي حنين!
ليس غريبا على مجموعة مصالح ضيقة اللجوء الى كل الوسائل المحققة للأهداف المسطرة مهما تطرفت طرائق تنفيذها، فرفع شعارات الوحدة الوطنية والمصير المشترك والكفاح حتى تحقيق المنشود، ليست إلا ذرائع لتنويم الالاف من الأشخاص للتحكم في مصائرهم ومقايضة أحلامهم بأطروحات مستحيلة التنزيل لعيب في المعنى والمبنى.
ويطرح مجتمع الضحايا اسئلة مؤلمة، تصدم كل باحث عن الحقيقة حول دوافع استهدافهم دون غيرهم، ودون إدانتهم بجرم يستوجب عقابهم، لأن من شأن الإجابة على هكذا تساؤلات تخفيف المعاناة التي رافقتهم منذ أربعة عقود.
واسترشادا بالمثل الحساني القائل “اخبطني وابكى واسبكني واشكى”، يتباكى بعض الأشخاص المحسوبين على حقوق الإنسان هذه الأيام على فراق امرأة صحراوية توفيت بعد معاناة طويلة طويلة مع المرض، وبدأت تتناسل اخبار متواترة على تورط جبهة البوليساريو في قطع أيدي أخيها المرحوم “بونا ولد العالم”، بعد تعذيبه لفترات طويلة في حمادة تندوف، وبغية إلهاء شقيقة الضحية عن متابعة البحث والتحري عن مصيرها أخيها، تحايل عليها عناصر أمن البوليساريو بأن تقدم معلومات وتأجج الوضع في الأقاليم الجنوبية، مقابل معرفة أخبار تطفأ الفراق والشوق الى لقاء أخيها، لتتم الوشاية بها للأجهزة الأمنية المغربية قصد توريطها والتخلص من مثابرتها على وضع السؤال والبحث الخارج عن المألوف في محيط المخيمات.
إن المخزي في القضية أن بعض دكاكين حقوق الإنسان لا زالت مستمرة في الكذب على الصحراويين بتقديم الضحية يكة منت العالم أيقونة النضال ونسخة من جميلة بوحيرد، بينما يحاولون إخفاء معالم الجريمة المزدوجة التي ارتكبها البوليساريو، بدءا من اختطاف شقيقها بونا ولد العالم قسريا وتعذيبه وقطع يديه، انتهاء بتوريط شقيقته في أعمال جاسوسية وسخرة والتحريض على العنف ونشر خطابات الكراهية والوشاية بها للتخلص من سعيها الحثيث لمعرفة الحقيقة بسأن مصير أخيها، واستماتة صقور الجبهة في محاولة لإقبار اثار الجريمة للأبد!
إن هرولة بعض الجهات إلى إلصاق التهم المجانية بالمغرب في علاقة بما تعرضت له المرحومة أمر مجانب للصواب، حيث إن دغدغة مشاعر الصحراويين لم تعد سلعة رائجة في زمننا الحالي، لأن الغالبية تعلم علم اليقين قصة “بونا ولد العالم” المؤلمة، التي لم يؤت مثلها في البلاد ومن الصعب للغاية تحملها، والبحث عن قشة للتعلق بها لتمجيد قيادة أساءت كثيرا لمحتجزيها سواء بالكذب عليها وتصوير الواقع المر أحلاما أو بالحديد والنار.
قد لا يعني شيئا للبعض تصالح المغرب مع ماضيه وإنجاح مصالحة وطنية أسست لبناء دولة الحق والقانون، وجبر ضرر ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان سواء تعلق الامر بضحايا الشمال أو الجنوب كحالة المرحومة يكة منت العالم، لأن يتعلق بمراجعة ودراسة ملفات الانتهاكات الواقعة في الفترة ما بين 1956 و1999، بغض النظر عن انتماء وإقامة وخلفية الضحايا الثقافية والفكرية وغيرها من المحددات، لكن المؤكد أنها شجاعة استثنائية، استطاعت رتق تشققات الماضي الأليم، ولملمت جراح الضحايا، وبدأ الجميع يتنفس نسائم الحرية، مهما انسجم أو تطرف رأيهم.
فأي مقاربة أو مشروع سياسي مهما تقوت رجاحته وعظمت أسباب نجاحه لا يلامس انتظارات ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في معرفة الحقيقة وجبر الضرر وتقديم المسؤولين عن معاناتهم للعدالة وضمان عدم تكرار ما جرى، لن يرى النور وسيولد ميتا لاستمرار الشعور بالظلم بين أفراد مجتمع الضحايا.
وبرجائنا بالرحمة والمغفرة للمرحومة “يكة العالم”، يجب أن نتحلى بالشجاعة لطرق جدران الجلادين وعتاة السادية بالمخيمات لإجبارهم على الاعتراف بجرائمهم، وعلى رأسها ما تعرضت له عائلة “أهل العالم” ليس خدمة للمغرب أو نكاية في البوليساريو، ولكن وفاء لكشف الحقيقة ونضالا من اجل ألا يستمر الإفلات من العقاب قاعدة عامة بالمخيمات، وانتصارا للعدالة وحقوق الإنسان بشمولية وعدم تجزئة.
فمتى تقدم لجنة البوليساريو لحقوق الإنسان على الاعتراف باختطاف الخليل أحمد ابريه من طرف السلطات الجزائرية بطلب من القيادة، وحرق صحراويين مدنيين في واضحة النهار وقصف تجار على الحدود الموريتانية الجزائرية بمنطقة إيكيدي، وقتل الكثير من الرجال والنساء ظلما وعدوانا، لم يقترفوا من ذنب سوى سوء مزاج الجلاد أثناء اختطافهم أو إمعانا بالشعور بالراحة في تكثيف حصص تعذيبهم، كما الحال بالنسبة لتعزية المجلس الوطني لحقوق الإنسان بالمملكة المغربية في وفاة المرحومة “يكة منت العالم” واعتبارها ضحية من ضحايا سنوات الجمر، ومباشرة ملف تعويضها وجبر ضررها.
إن الدعوة الى إعادة النظر في تمثلاتنا لقضايا حقوق الإنسان بمنظار كوني خال من أي إقصاء اثني أو مناطقي أو ثقافي، قد يعزز إيماننا بالدفاع عن الحقوق بغض النظر عن علاقاتنا بأصحابها أو قربنا أو بعدنا منهم، وهي مساهمة كذلك في إضفاء جو من السلم والسلام في مجتمعاتنا.
فالاعتقاد بالتعصب لإيديولوجيات أو مواقف أو جهات ذات سلطة أو مالكة لمنافع يخدم قضايانا على حساب الكرامة والحرية والتمتع بالحقوق وسبل الانتصاف العادلة، أمر لا يستقيم، لانتفاء الإيمان بمبادئ العدالة والمساواة وإحقاق الحق، ولذلك فأي طرف لا يرى بأن الانتهاك جريمة في أي مكان وقعت فيه، يعد مساهما في الجرم، ويتقوى الأمر حينما يصمت عما يقع أو ينافح عن المرتكبين..
ولعل قتل أكثر من 25 صحراويا إثر قصف جوي جزائري في ماي الماضي، يضاهي في بشاعته صمت النشطاء الصحراويين المطبق في المخيمات وفي اقاليم الصحراء أوفي الشتات، والاحجام عن التنديد بارتكاب تلك الجرائم الكبرى، بينما يسارعون الخطى لتكييف حديث شرطي في نقطة مراقبة للسيارات مع بعض منتسبيهم على انها جريمة ضد الإنسانية !
فمتى نتحرك بدافع الإنسانية خدمة للإنسان وحمايته من الانتهاكات وحفظا لكرامته، وليس انتظارا لتعليمات من تندوف، قد تغير صفة الناشط من مدافع عن حقوق الانسان إلى تابع أو وكيل خدمات خاصة لنافذين في الرابوني مع علاوات شهرية مجزية تسهم في مزيد من التشرذم والفرقة عوض الانخراط في البناء ورص الصفوف والالتفاف حول المشترك؟