بعد انتهاء انتخابات السودان 2010 لعلها كانت في أبريل قبل أربعة عشر سنة وفوز مولانا أحمد محمد هارون، والي ولاية شمال كردفان للمرة الثانية على التوالي؛ ذهبت أنا وسعادة السيد حسن مهنا جراد كَكْكِي رحمه الله رحمة واسعة، الوزير الأسبق لوزارة السياحة في عهد الرئيس جعفر نميري؛ وهو أحد أعيان رجالات ولاية جنوب كردفان وبالأخص من رجالات جبال النوبة التي لي بها صلة قربى ورحم بأبناء جبال النوبة من مناطق تلودي والليري وكادوقلي وأم دورين وكلوقي وغيرها من مناطقنا هناك.
وكان الراحل كَكْكِي يعمل مستشاراً سياسياً للحزب القومي المتحد الذي كان بقيادة الراحل فيليب عباس غبوش، وتولى قيادة الحزب من بعد غبوش السيد باكوتالو؛ وسبب العلاقة التي جمعتني بالراحل حسن كَكْكِي هو العمل الحر وفي ذات الوقت العمل الحزبي إذ تم تعييني وهمياً مسؤولاً عن مكتب الإعلام والعلاقات العامة بالحزب.
والغرض الأساس من هذا المنصب هو الحصول على راتب شهري علماً بأنَّ الحزب لا يمتلك أي موارد مالية من أية ناحية ولكنه جسم سياسي له كيانه ومنسوبيه الأوفياء الحقيقيين بلا شك.
اتصل بي حسن جراد كَكْكِي بعد مداولات مع مكتب قيادة الحزب أن أمثِّل الحزب في الزيارة الرسمية لشمال كردفان وعاصمتها الأبيض لتهنئة مولانا أحمد محمد هارون، بفوزه في الانتخابات في كرسيه السابق والياً لولاية شمال كردفان؛ وهذه الزيارة الخاصة بها كبار رجالات الدولة الإسلامية آنذاك منهم البروفيسور إبراهيم غندور ونافع علي نافع وجماعة من قيادات حزب المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية نسيت أغلبهم؛ فرحبت بالتمثيل الحزبي وحضرت وأنا في كامل الأناقة والشياكة علماً بأننا لا نحمل جنيها واحداً وتم الوعد بأن أذهب مع فلان وهو سيقوم بتصريفي المالي طيلة فترة الزيارة التي ستستغرق أربعة أيام ببرنامج زيارات ميدانية لعدد من مؤسسات الدولة هناك؛ وفعلاً يا مؤمن يا مصدق حضرت إلى المطار، مطار الخرطوم الدولي صالة السفريات الداخلية ووجدت الجماعة في الإنتظار.
الشاهد في الأمر هو أننا استلفنا مبلغ مالي لزوم المواصلات العامة من السوق العربي من أحد الجوكية حتى المطار؛ وأنا شخصياً لا أحمل درهماً ولا ديناراً وكل ما في الموضوع أن واعدني كَكْكِي بالمصاريف اللازمة للسفرية على أنَّها يوم واحد واليوم الثاني تقلب الخرطوم تكون حضوراً في السوق العربي؛ وعندما تقابلنا في ساحة الصالة أخبرني بأنَّ الترتيبات تغيرت وأن المأمورية ستمتد لأربعة أيَّام حسوماً؛ فأخبرته أن لا مال معي ولا ملابس للغيار ولا أي أدوات شخصية “دي سفرية منيلة بستين نيلة ” فقال لي بالحرف الواحد: “أولادنا هناك بقوموا باللازم” ويقصد أبناء النوبة؛ من تصريفي وشراء ملابس جديدة وهكذا.
هذا ! الساحة المقابلة لصالة السفريات الداخلية بالمطار كانت مؤمنة بنسبة مائة بالمائة بأفراد جهاز الأمن الوطني والحرس الخاص للشخصيات الكبيرة بحيث لا يمكن مرور ذبابة دون تفتيش أو تحقيق؛ وفي هذه اللحظة بالذات شعرت بشيء غريب / هواء بااااارد يتسلل إلى داخلي من الملابس / علماً بأنَّ الجو كان حاراً والوقت منتصف الظهيرة والقلق يسود المكان وأفراد الأمن أشبه بالزبانية منتشرين في كل شبر من المطار وبالذات الصالة التي تنتظر قدوم الدكتور نافع علي نافع.
المهم دخلنا استقبال الصالة وكنت قد أسدلت القميص على البنطلون فلاحظ كَكْكِي ذلك ولم يقدر على سؤالي إذ خربت الشكَّة القيافة ونحن أمام ضابط الأمن أومأ لزميله مشيراً إليَّ أن: من هذا ؟ فقال له: هذا حرس الوزير كَكْكِي؛ إذ كنت أقف خلفه مباشرةً؛ فسمح لي بالدخول دون تفتيش الذبابة الوحيدة التي مرت دون تفتيش -؛ ودخلنا صالة الإنتظار وسلمنا على كل قيادات المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية والحرس الخاص وأفراد التأمين (كلهم بسلامتهم) والحق يقال: كانوا كريمين جداً في حسن الضيافة والاستقبال ولم أشعر بالتعالي من جانبهم، حتى انتهينا لآخر مقعد فاضي وجلست أنا فيه بينما جلس كَكْكِي في مقعد بعيد مني إلَّا قليلاً.
مرَّت لحظات من الترقب والترصد بالغة التعقيد وكنت قد كرهت نفسي بعد أن أسدلت القميص على البنطلون إذ غير لائق هذا التصرف ولكن ما باليد حيلة؛ وأخذت صحيفة اقرأ منها وسرحت بعيداً، بعيداً جداً بأنني لن أسافر مع هؤلاء القادة ولا بد من سبب مبرر لإلغاء السفرية اقنع به كَكْكِي؛ وفي هذه الأثناء سمعت صوتاً يناديني:
يا شاب يا أخ السلام عليكم.
وكررها عُدَّة مرات فلم انتبه حتى وكزني أحدهم بأنَّ الدكتور نافع علي نافع يقف أمامك فيجب أن تقوم وتحييه؛ فما كان مني إلَّا أن انتفضت وأسرعت القيام معتذراً إليه بهذه الهفوة غير المقصودة وقبل اعتذاري وهفوتي وحيَّاناً فرداً فرداً؛ وقال: “نمشي بعد؛ نتوكل على الله” أي نذهب لنركب الطائرة المتجهة إلى مطار الأبيض بولاية شمال كردفان.
في اللحظة التي أمرنا بها بكل لطافة الدكتور نافع علي نافع بالتحرك نحو الطائرة واعطانا ظهره لأننا كنا في انتظاره هو؛ وللتاريخ والأمانة قد اعتذر للحضور جداً عن هذا التأخير غير المقصود أخذت كَكْكِي على جنب وأبلغته بأنني لا أستطيع السفر بأي شكل من الأشكال فغضب جداً من هذا التصرف الغريب الذي لا يشبهني فأخبرته أن “سوسستة البنطلون اتحلجت (سوسن عبد الفتاح)” ومستحيل السفر بهذه الطريقة المشينة لشخصي المفلس دوماً فغضب جداً ولكن مرَّت بسلام، فذهبوا هم إلى الطائرة وعدت أنا إلى السوق العربي؛ ولا من شاف ولا من دري.
تنبيه
القارئ الكريم رجاء اقرأ هذا المقال بالتركيز على وجه الفكاهة فيه لا بشكله العام فأنا شاهد على عصري.