السيد محمد علي الحسيني
انعقد يوم الثلاثاء 24 ديسمبر بالقصر الملكي بالدار البيضاء اجتماع ترأسه جلالة الملك محمد السادس، خُصص لتقديم المجلس العلمي الأعلى نتائج دراسته حول مقترحات تعديل مدونة الأسرة، هذا الاجتماع جاء في إطار التوجيهات الملكية السامية التي أكدت على ضرورة الحفاظ على الثوابت الدينية مع اعتماد الاجتهاد البناء في القضايا التي تستدعي قراءة جديدة للنصوص الشرعية، وفقًا للقاعدة التي وجه بها جلالة الملك: “لن أحلل حرامًا ولن أحرم حلالًا”.
إن المجلس العلمي قام بتقديم رأيه في المسائل السبع عشرة المحالة إليه، مؤكدًا موافقته على أغلبها، مع توضيح سبل إمكان توافق البعض الآخر مع الشريعة الإسلامية، أما القضايا المرتبطة بالنصوص القطعية، مثل استعمال الخبرة الجينية لإثبات النسب، وإلغاء قاعدة التعصيب في الإرث، والتوارث بين المسلم وغير المسلم، فقد رأى المجلس عدم جواز الاجتهاد فيها.
في المقابل، فقد أبدى موافقته على مسائل أخرى، مثل تخويل الأم الحاضنة النيابة القانونية عن أطفالها، واعتبار العمل المنزلي مساهمة في الثروة المشتركة، وتنظيم الديون بين الزوجين لضمان العدالة.
إدراج مسألة الكد والسعاية سبيل لتحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية
من أبرز القضايا التي أثارت نقاشًا معمقًا، مسألة الكد والسعاية، التي تمثل جزءً من الفقه المالكي المعتمد في المغرب، ولاشك أن هذه المفاهيم تضمن الاعتراف بمساهمة المرأة في الثروة التي تم تحقيقها خلال الحياة الزوجية، سواء بشكل مباشر من خلال العمل، أو بشكل غير مباشر عبر الدعم الأسري، وإن إدراج هذه المفاهيم في التشريع يعكس مرونة الفقه الإسلامي، الذي يسمح بالاجتهاد في القضايا الظنية لتحقيق مقاصد الشريعة، وكما قال الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): “اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فإن رواة العلم كثير، ورعاته قليل”، في إشارة إلى أهمية الفهم العميق والتطبيق الحكيم للنصوص.
كما أشار الإمام جعفر الصادق (عليه السلام): “إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم التفريع”، مما يبرز ضرورة استنباط الأحكام من النصوص وفقًا لمتغيرات الزمان والمكان، وإن الفقه المالكي، بمرونته واعتماده على المصالح المرسلة، يُعد نموذجًا يُحتذى به في التعامل مع المستجدات الاجتماعية، وهو ما يجعل قضايا مثل الكد والسعاية تعبيرًا عن هذا الاجتهاد البناء.
أهمية الاجتهاد دون التفريط في الثوابت سبيل لضمان استقرار المجتمع
في هذا السياق، يأتي كتاب الدكتور محمد بشاري، “حق المد والسعاية: مقاربات تأصيلية لحقوق المرأة في الإسلام”، كإضافة مهمة لفهم هذا الموضوع، يقدم الكتاب رؤية متوازنة تجمع بين الأبعاد الشرعية والقانونية والاجتماعية، داعيًا إلى الاعتراف بمساهمات المرأة في بناء الأسرة وتنمية الثروة المشتركة كجزء من تحقيق العدل في الإسلام.
التعديلات المقترحة على مدونة الأسرة ليست مجرد خطوات قانونية، بل هي محاولة لتطوير مؤسسة الأسرة في ظل مجتمع مغربي يشهد تحولات كبرى، ومع ذلك، فإن مثل هذه التعديلات تتطلب توافقًا مجتمعيًا واسعًا وتوازنًا دقيقًا بين حماية القيم الأسرية ومواكبة متطلبات العصر، وكما قال الإمام الحسين بن علي (عليه السلام): “إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي”، فإن الإصلاح في قضايا الأسرة يجب أن يظل في إطار تحقيق المصلحة العامة ورفع الضرر عن أفراد المجتمع.
ختامًا، تبرز هذه الجهود أهمية الاجتهاد في قضايا الأسرة لضمان تلبية احتياجات الناس، دون التفريط في الثوابت، ويبقى السؤال إلى متى ستظل بعض القراءات التقليدية تقف حاجزًا أمام التفكير الحر في قضايا مصيرية؟ الاجتهاد ضرورة لا غنى عنها لضمان العدل وتحقيق المصالح في زمن يشهد تغيرات متسارعة.
* أمين عام المجلس الإسلامي العربي