آراءسياسة
أخر الأخبار

كيف دبروا فتنة “الميلاد” السوري؟

تتحمل طهران مباشرة، حتى لو افترضنا جدلا وسذاجة أن في الأمر مصادفة قدرية، المسؤولية عن الشغب الطائفي، في يوم عيد الميلاد.

ارتكبت إيران خطيئة كبرى بإعلانها الحرب ضد “سوريا الجديدة”. تراجعت وزارة الخارجية الإيرانية عن إعلانها السابق عن جهود لفتح السفارة الإيرانية في دمشق.

قالت المتحدثة باسم الوزارة إن ما أعلنته في هذا الشأن فُهم خطأً. بدا أن أمر السعيّ إلى الوصل مع التحوّل السوري بعد اسقاط نظام بشّار الأسد يتناقض مع وعيد وزير هذه الوزارة، عباس عراقجي، بأنه من “المبكر الحديث عن انتصارات” في سوريا، مختتما تصريحه بما فهم أنه نذير بأن “الآتي أعظم”.

ولمن لم يفكّ شيفرة “تنمّر” عراقجي على فرحة السوريين، فإن وزير هذه الوزارة الأسبق، و النائب الحالي للرئيس الإيراني للشؤون الإستراتيجية، محمد جواد ظريف، تحدّث بتشفي عن حرب أهلية مقبلة في سوريا يستدعي تجنّبها دورا إيرانيا داخل ما قال إنها مبادرة لحوار بين دول المنطقة يشمل الحكومة السورية الجديدة.

يقوم استشراف عراقجي لتطوّرات مقبلة في سوريا، وتحذير ظريف من احتراب أهلي سيصيبها، على قراءة المرشد الأعلى، علي خامنئي، الذي وعد بتدخّل “الشرفاء الغيورين”، لإنها “الفوضى” في سوريا التي “تحرّكها أجندات أميركية-إسرائيلية”.

ولئن يجمع ساسة طهران الكبار على اعتبار حدث سوريا نكبة كبرى وخسارة استراتيجية مفصلية، فإن الوعد بتغيير الأمور سيكون بفعل فاعل مصدره الجمهورية الإسلامية في إيران.

تتحمل طهران مباشرة، حتى لو افترضنا جدلا وسذاجة أن في الأمر مصادفة قدرية، المسؤولية عن الشغب الطائفي، في يوم عيد الميلاد، الذي طال اللاذقية وطرطوس وبانياس وجبلة وحمص ودمشق وريف حماة وغيرها.

لم تخرج تلك المظاهرات بشكل عفوي انفعالي، بل تحرّكت بناء على أمر عمليات له أدواته ورعاته وممولوه.

كان مطلوبا أن تعلو معاناة “الإقليات” وعذاباتها بعد أسبوعين فقط من القضاء على نظام استبداد حكم البلد طول 54 عاما.

وكان مطلوبا أن تنتقل صور الاحتجاجات “السلمية” لتسافر في العالم استجداء لانقلاب على أولي الأمر الجدد في دمشق. والأدهى أن الخشية على الأقليات تسرّبت من وعيد قادة طهران، لكنها بدت واجهة أولى في كافة البيانات والمواقف التي صدرت عن المجتمع الدولي.

يهمس لي أحد المصادر أنه سمع في دمشق ممن كانوا يعملون في مؤسسات النظام الساقط وما زالوا في مناصبهم، تبرّما من أحداث “عيد الميلاد” السوري الأول بعد التحرير، واصفين مرتكبيها بأنهم شريحة لا يصدقون التحوّل الكبير ولا يقبلون مرتبة المواطنين بعد أن اعتبروا أنفسهم آلهة سوريا قبل ذلك. سمعت همسا آخر يأخذ على “إدارة العمليات العسكرية” مروءة ونبلا وخطابا وطنيا جامعا فهمته تلك الشرائح ضعفا وجزعاً.

يتحدث آخرون عن أن نظام بشّار الأسد لم يسقط، بل هرب رئيسه وفرّ بعض قادته إلى الخارج، فيما الجسم الفاعل متوار داخل البلد، متدثّر بحالة السماح تارة، و “التسويات” تارة أخرى، جاهز للانقضاض على المُنجز واستعادة أمجاد اندثرت.

قلاقل سوريا خلال الأيام الأخيرة هي من عاديات زلزال لم يستيقظ منه العالم بعد وليس السوريين فقط. في تاريخ التحوّلات التي جرت في بلدان العالم، لا سيما في أوروبا الشرقية في بداية التسعينيات، وتلك العربية بعد عام 2011، حتى لا نذهب عميقا في التاريخ، جولات من حمامات دم وفوضى كارثية وصلت إلى حدود المقتلة الأهلية.

لم تكن سوريا، في ما تكتنزه من احتقان وأحقاد لها جذور عتيقة بنى عليها نظام الأسد قواعد بقائه، وفي ما يشكله مجتمعها من تعدد وتنوّع في البيئات والجغرافيا والأمزجة والعشائر والأعراق والأديان والطوائف، إلا ساحة منطقية للكارثة الأهلية الكبرى. لكنها، وكأنه إعجاز إلهي، لم تحصل.

تنبهت “إدارة العمليات” لخطورة الأمر منذ اللحظات الأولى لبدء هجومها في 27 تشرين الثاني الماضي. بدا الترتيب معدّا سلفا، وفق توجيهات واضحة بالحلم والتسامح مع الأهالي، حتى أن هناك ما أشار إلى أنه لم يذكر التاريخ سقوط مدن كبرى مثل حلب وحمص ودمشق وغيرها من دون تجاوزات وانتهاكات. بدا لاحقا أن ما صدر عن أحمد الشرع، قائد الإدارة الحالية في سوريا، من أنه “فتح لا انتقام” هو قاعدة التزمت بها كافة الفصائل حتى بدت الظاهرة مفاجئة وخارج المألوف.

تعالج “الإدارة” العبث الداهم بأدوات جديدة. الشدّة والحزم مع “الفلول”، واستمرار الانفتاح والتواصل مع قادة المجتمعات ووجهائها. وللمفارقة فإن تهديدات إيران ووعيدها بالعبث في سوريا، حصّنت أهل الحلّ والربط في دمشق من حرج دولي للحسم وقطع دابر الفتنة في البلاد. بدا أن العواصم البعيدة والقريبة التي اشترطت حماية الأقليات مدخلا للوصل والتواصل مع الشرع وفريقه، استنتجت مخالب لطهران في تخريب سلمية التحوّل السوري وسلاسته.

استنتجت إيران بدورها أن “تبشيرها” أهل المحور بفوضى وحرب أهلية وتطورات مثيرة في سوريا، دونه وعيّ السوريين أنفسهم، وبالمرصاد له إرادة إقليمية دولية تتمدد كل يوم لحماية هذا التحوّل ونصب مظلة واسعة تصونه.

لن يكون سهلاً ردّ هجمات متوقّعة من المتضررين، في الداخل والخارج من التحوّل السوري الكبير. يبدو البلد في سباق مع الزمن للدفع بالمرحلة الانتقالية وقيادة البلاد إلى مرحلة جديدة.

تدفع تجربة العبث في الأيام الأخيرة باتجاه مزيد من الانفتاح على شركاء الداخل والخارج، ومزيد من توسيع مساحات المشاركة، ومدّ التحوّل ليطال كافة شرائح المجتمع. صار مطلوبا اسقاط الحديث عن أغلبيات وأقليات وحشر الإنقسام بين شريحة كبرى تطمح إلى آفاق مستقبل واعد، وشريحة ستصغر يوما بعد آخر ستبقى تبكي على ماضٍ كئيب.

https://anbaaexpress.ma/lhqgs

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى