أحمد متراق
الجميل في رسالة الدكتور أحمد التوفيق قبل الخوض في مضمونها الذي يعد درسا شرح فيه الأستاذ مجال وحدود الممارسة السياسية بالمغرب في علاقتها بالدين، هو شكلها الجميل والمحترم ولغتها الأنيقة التي أعادتنا للعصر الذهبي للممارسة السياسية بالمغرب سنوات الستينات والسبعينات إلى حدود التسعينات، حيث كان الصراع السياسي فكريا بالأساس بين مختلف التيارات والتوجهات السياسية.
صراع تستعمل فيه كل الأساليب الأدبية والعلمية الرزينة من مجابهة، محاججة، مقالات صحفية ورسائل المفتوحة للتعبير عن المواقف السياسية، بلغة عربية أو فرنسية أنيقة ومعطيات علمية دقيقة تتجاوز كل معاني التجريح والتنقيص وتناقش الفكرة لا الشخص.
رسالة أعادت للممارسة السياسية بالمغرب بريقها..
التوفيق الذي كان موفقات، قبل أن يكون كاتبا وباحثا وعالما من طينة الكبار، ينتمي زمنيا لآخر جيل عاصر السياسة بمفهومها الصحيح، أعاد لنا بلباقته ليلة أمس بريق النقاش السياسي العمومي المفتوح والجميل بلغته المحترمة، وقواعده النبيلة التي تقدر الخصم وتدافع عن الفكرة بدون تجريح أو تنقيص من قيمة الاخر.
في وقت سفهت فيه الشعبوية مفهوم السياسة بالمغرب بخطابها المبتذل الذي يعتمد في جوهره على تحوير النقاش السياسي العمومي من نقاش الأفكار وصراع الإيديولوجيات إلى صراع الأشخاص تستعمل فيه كل أنواع السب والتجريح والتنقيص من الخصوم السياسيين.
هذا الخطاب الذي يعد بن كيران أحد رواده والأب الروحي لهذا النموذج المسيء للسياسية عموما، حيث كان أول سياسي يعتمده في خطاباته السياسية الموجه للشعب بعد الربيع العربي وحركة 20 فبراير، الأكيد أنه تلقى ليلة أمس درسا الأكيد أنه لن ينساه هو وحزبه وسيعلن بشكل أو باخر نهاية المسار السياسي للرجل.
ما لا يريد أن يفهمه الإسلاميون بالمغرب..
أما من حيث الموضوع، فقد وفق التوفيق في إيصال رسالته ليس فقط إلى بن كيران وإنما لكل من حاولوا مرارا وتكرارا استهدافه كشخص أو إستهداف مؤسسته وعبره مؤسسة إمارة المؤمنين..
وتعمد الدكتور توقيع الرسالة باسمه الشخصي بالرغم من أنه يحاول الإجابة على ما قاله في البرلمان بصفته الوزارية وتم تأويله، حتى لا يقحم وزارته والمؤسسة التي يمثلها في بوليميك سياسي لن يتناسب مع مكانتها الدينية.
ما لا يريد أن يفهمه الإسلاميون وشرحه وزير الأوقاف السيد “احمد التوفيق” أن الحديث عن العلمانية بالمغرب هو حديث معقد ومركب حتى لدى الدول الغربية التي تتبعها كنظام لدولها، لكنه في ذات الوقت واقعي ونتفاعل معه بالمغرب بالشكل الذي يجب، من خلال المزج بين الخصوصية الدينية في ظل وجود مؤسسة إمارة المؤمنين باعتبارها الضامن الأسمى لحرية المعتقد والتي تحمي الدين من كل محاولات التطرف والمساس بقيم الإسلام السمحة، وبين الممارسة السياسية التي تعتمد في أساسها وجوهرها نظاما غربيا علمانيا يقوم على الانتخابات والأحزاب السياسية بمفهومها الديمقراطي الحداثي والمتقدم.
ما لا يفهمه الإسلاميون أو لا يريدون ذلك هو أنهم جزء من نظام علماني غربي ولكن بضوابط وقواعد إسلامية ليست مطلقة بالطريقة التي يتخيلونها أو التي يريدونها، ولا يمكن لدولة تريد أن تواكب ركب التنمية وتتقدم في سلم الحضارة أن لا تساير هذا النظام العالمي في تعاملاته الاقتصادية ومواقفه السياسية التي تناهض الإرهاب والتطرف وتدعو لتعزيز حرية المعتقد وثقافة حقوق الإنسان ومنح مساحة كافية لممارسة الحريات الفردية لمواطنيها ما دامت لا تمس ولا تتعلق بالنظام العام، ولا يمكن باي حال من الأحوال عقد الشراكات وبناء علاقات مع الدول العظمى إن لم يكن هناك توجه يتماشى مع سياساتها وتوجهاتها العامة باعتبارنا كدولة جزء من هذا التوجه العام.
لكن كل هذا لا يمكن أن يتم خارج حدود يتم وضوابط دينية تعمل مؤسسة إمارة المؤمنين التي تضمن حرية المعتقد والانسجام العقائدي، على تحديدها وفق اجتهادات فقهية وفتاوي تصدر عن المجلس العلمي الأعلى ويصادق عليها أمير المؤمنين.
إمارة المؤمنين، الضامن الأسمى للتوازن الديني بالمغرب
الدين بالنسبة للأحزاب السياسية هو الأداة الوحيدة والسبيل الأمثل لبلوغ السلطة وأي محاولة لفتح نقاش واقعي حتمي حول مستقبل السياسة بالمغرب في ظل التحولات والمتغيرات التي تمس قيم وثوابت وأفكار المواطنين هو بالنسبة لهم مساس بمصالحهم ويعتبرونه استهداف مباشر لهم من المؤكد أنهم سيسخرون كل أسلحتهم لمحاربة من يحاول فتح هذا النقاش أو إثارته.
وما يميز التجربة المغربية والذي جعلها مثال يحتدى به في الحفاظ على الهوية الدينية مع مواكبة التطور العالمي هو اجتهادات علماءه وانفتاحهم على التجارب الغربية من جهة، والوقوف الصارم لمؤسسة إمارة المؤمنين للتصدي لكل محاولات نشر الخطاب الديني المتطرف..
أدام الله علينا نعمة الأمن والأمان.
* كاتب، باحث في العلوم السياسية