كل طفل وطفلة يدخل المشفى لايكون في أحسن احواله، من الرهبة والمجهول ووحشة الوالدين وغياب أصدقاء اللعب، فإذا أضيف إلى ذلك مرضا وإصابة فقد زاد الطين بلة، ولذا فقد ترك لنا أطفال المشافي ذكريات مختلفة، ولكن أعظم الأطفال كانت طفلة اسمها (شموخ) التي واجهت مرضها بشموخ، فاستحقت اسمها الذي أعطاها إياها والدها بجدارة ولكن ماقصتي مع هذه الطفلة الشامخة؟.
كانت عملية في غاية الصعوبة ونحن نعمل على شرايين الأطفال برفع أغلظ من الشعرة بقليل. لكنها تقدمت للفريق الطبي، وهي في محنتها بعد أن تجاوزتها بقليل، بوردة حمراء جورية في غاية الجمال، ملفوفة بإناقة وإتقان، قلت ليت كل الأطفال الذين يدخلون عنابر المشفى يقدمون لنا باقات الورد هكذا.
وجرت عادتي أن أعطي الأطفال من ظرف مجهز، يحمل ورودا وأسماك وحيوانات، يمكن لصقها على الدفاتر المدرسية، فكانت هذه الطفلة الموهوبة، أسرع مني في العطاء، بل ووردة ليست من ورقة، بل من الطبيعة الغناء.
أكتب هذا لأن سيكولوجية الإطفال تمتاز بحساسية مرهفة، وانطباعات حادة، وذاكرة مدهشة، وكانت هذه الطفلة المميزة وردة في الجناح الطبي، بشخصية قوية، وذكاء لماح، وبديهة حاضرة، وكانت وهي في فترتها القصيرة التي بقت عندنا، غاية في التحمل، ودماثة الخلق، والمعدن الكريم من عائلة كريمة. قلت لها أتمنى أن اراك طبيبة في المستقبل هزت رأسها بثقة بالإيجاب. أكتب هذا ولا أعلم مصير هذه الطفلة الموهوبة هل أصبحت طبيبة هل هي في عالم الأحياء أم الأموات؟
إن شموخ هي واحدة من العديد من الأطفال، الذين اجتمعنا بهم في أيام صعبة، وترك كل طفل آثاره خلفه. وقبل أيام اجتمعت بشاب قوي البنية، أطول مني قامة، قال هل تذكر حالتي؟ فكرت وقلت أذكرك طفلا صغيرا، وليس شابا يافعا، قال: وهو كذلك؟ ثم مد ذراعه فرأيت آثارا لاتمحى من حادث مروع في ذراعه، قمت أنا بتبديل الشريان بوريد مكانه، فما زال يعمل بدون مشاكل، قلت له هل والدك مازال يعمل في المرور؟ لقد تذكرته أي الوالد مع ابنه من صورة التقطتها له بعد الحادث. قال: لا لقد تقاعد..
قلت بلغه سلامي إذن. سألني إن كنت مازلت أحتفظ بالصورة القديمة، التي حبست الزمن في ثانية؟ قلت سأرى لأنني احتفظ بإرشيف من أربع مجلدات للحوادث العجيبة، وفعلا أتيته بصورته القديمة، وعمره في حدود عشر سنوات وهو يبتسم بجانب والده. كان الطفل ـ الشاب هذه المرة يلعب بالكمبيوتر ويعرف التقنيات الحديثة، قال هل يمكن أن أسحب الصورة على السكانر؟ قلت له ليس عندي سوى هذه النسخة، فهل يمكن أن أئتمنك عليها؟ قال بكل تأكيد.. وهكذا أخذ الصورة إلى أرشيفه، وأنا أتعجب من تدفق الزمن السريع المنهمر بأشد من شلالات نياجارا.
وفي الواقع فإن خبرتي مع الأطفال والعمل في جراحة الأوعية الدموية تمتد على مدى عشرات السنوات، أنشأت فيها ثلاث مراكز لجراحة الأوعية الدموية بعد أن قدمت إلى الخليج بالخبرة الألمانية ولكن لم يستفد مني إلا شاب من مدينة المنيا في مصر هو الدكتور مصطفى الصناديقي.
وهكذا حينما استرجع الذكريات بين ألمانيا حيث كنت أنمو أكثر من العشب الكندي في طقس ماطر لأنتقل إلى تربة رملية لاتنبت زرعا ولا ضرعا ولكنها الأقدار. وأثناء عملي رأيت فيها من الأهوال الجراحية ما تشيب له الولدان، ويجب أن أكتب فيه مذكراتي كما فعل جراح الأوعية الفرنسي (ليريش)، يضاف فوقها تسع سنوات من أرض التيوتون ألمانيا، وفوقها ثلاث سنوات (خائبات مضيعة للوقت والعمر والجهد) في مشفى المواساة في دمشق حيث عملنا فيما يسمى الدراسات العليا وهي في الواقع سفلى بامتياز؟..
فيكون زمن خبرتي في المهنة وصل إلى أربعة عقود؟ فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام. وهذا يعني أنني رأيت من الليالي الخالدات، والحوادث المرعبات الكفاية، وحين أذكر واقعة كما فعلت في قصة حوادث الدبابات، فهي من مستودع كبير جدا، ونحن نحاول مهنيا، أن نستبدل الأسماء والجنس والعمر وسواه، حتى لانسبب حساسية لأحد، ومع ذلك لاننجو، كما حدث معي مع طبيب أذنية، ظن الكلام موجه ضده، ولم يكن كذلك، فاعتذرت له، وأكرر اعتذاري سلفا لأي طرف، يشعر أن الكلام له، وهو ليس له..
فهذه من تقاليد المهنة المعروفة.ويخيل أحيانا للبعض أنني قصدت به مريضا دون آخر. وهذا من جملة العبر في استيلاء النقص على جملة البشر كما يقول النحويون، كما أن هذه من مطبات الكتابة التي تحفنا من كل جانب، ونطأها بأقدامنا مثل الألغام طورا، وتسبب بعض الصداع أحيانا..
فهذه من اختلاطات الكتابة (المضاعفات) كما كان للجراحة مضاعفات، مع الفارق بعدم وجود شركات تأمين ضد أخطاء الكتابة، وهكذا فكنت في الفترة السابقة محفوف بالخطرين، والآن بعد تقاعدي والحمد لله، يبقى مضاعفات الكتابة، التي قد تنسف الكاتب في جملة وسطرين ومقالة، ولذا أكتب أنا كل مقالة كتابة مودع.. فوجب على قراء مقالاتي استيعاب أن ذكر شخص وجنس وحادثة هو غطاء لشيء آخر؛ فليس الشخص هو، ولا الجنس بعينه، ولا الزمان والمكان..
بل ولا الحادثة.. وهكذا فالأطفال فلذات أكبادنا، وضوء مستقبلنا، فلك كل التحية ياشموخ أينما كنت وفي أي عمر أصبحت وأي عائلة بنيت، وهل أصبحت طبيبة كما وعدت وأفضل منا بإذن الرحمن الرحيم، فثقي بالله الذي يعلم السر وأخفى.. وارفعي رأسك بشموخ.. ياشموخ!